تليق الشاهدات بالذين نحبهم

تلك الشاهدات التي تذهب بعيداً في امتدادها الأزلي، وتمدّ أجنحتها حتى آخر ذاك السماوي الأزرق، وكأنها أسراب من حمام أبيض غادر دم الذين غادرونا خلسة مكفّنين بالدم والزيزفون، ثم نهضوا ثانية بأسمائهم المتميزة الخالدة، والرائعة، وهي تضيء شاهدات قبورهم، وتحمل لمن يمر بها رسائل عديدة! لكل عابر رسالة خاصة به، تمنحه الوقت للتفكير والبكاء والغناء، وتقصّي الحقائق عن أولئك الذين غامروا بما ملكوا ليكونوا قدوة للآتين من بعدهم، ولكي يصعد بهم الوطن إلى أعلى أعاليه الممكنة، أو تلك الأعالي التي تشبه فردوس الخلود، وكوكب الأحلام المحتمل فقط في ذاكرة تتصور حضورها المطلق في غياب عامر بالمدهشات النائية، أو ما يخفيه البعيد الأزرق من كينونة محتملة لما وراءه القصيّ، أو مايشبه تلك الأساطير التي يغص بها الوجدان بما تبدي، وتخفي، فتحيله إلى مرايا كاشفة حيناً لما يختفي وراء ظلال الغامض المجهول، وحيناً تظهر حقائق الذين يحدقون فيها بضراوة وقسوة، فتكشف فيهم ملامح لا مفهوم لتشكّلها الاستثنائي إلا تلك الغرابة والوحشة القاسية التي تعبر عن ضراوة غربتها، ووحشتها عن محيطها الوطني والمجتمعي! تحمل نبضاً مغايراً لتطلعات شعوبها، وأماني ترابها، وأحلام الوسائد التي نزف الحالمون عليها روعة التطلعات الدامية لما يحبون ويرغبون ويتمنون!

وحدها الشاهدات تحمل روعة القصائد التي لم تكتب، ولكنها ظلت تحمل عبر نهاراتها الفضية المتوهجة أسماء الذين نحبهم، وقد غادرونا احتمالاً مؤقتاً، ثم عادوا إلينا مجدداً من خلال نهوضهم المحتم في شاهدات كتبت قصائدها الخالدة بروعة أسماء مبدعيها، أو بما خلفته جراح أولئك الرائعين عبر تراب الأرض الوفي الذي حفظهم في ذاكرة الشاهدات والزيتون والتين والصبار والزيزفون.

نعم تليق الشاهدات جداً بالذين نحبهم، أنهم عبروا بقيمة دمهم إلى الأرض التي عبروها عاشقين، ورائعين، وموجوعين حد الصبابة والذوبان بتلك الربوع التي حفظتهم في ذاكرتها، على أنهم نتاج ترابهم العظيم، وكينونة ترابها الخالد، ذلك التراب المعطر بالدم ونكهة من غادروا، وثيابهم معفرة بمسك ثراهم، أولئك وحدهم فقط الذين نسجوا تلك اللحمة الباقية أبداً في وجدان الزمان بين الشام وفلسطين، يشكل الجولان في تلك اللحمة ذاك الرباط الذي يشد إليه نسيج جناحين هما في الحقيقة رعشة تلك النبضة التي تسري بينهما، ليكونا عبر الأبد المديد وحدة واحدة المصير، والأهداف، والرؤى المشتركة، تلك هي مكوّناتنا المتجذرة في صميمنا وضميرنا أبداً، طوال الحياة والأبد، ومن أراد أن يفصل بين مكوّناتنا الواحدة، فهو خارج علينا، وخارج منا، ولسنا بحاجة في مثل هذه الظروف التي نعيشها، وتمر علينا بإثمها، وضراوتها، أقول: لسنا بحاجة على ردة ومرتدين، فما نعيشه، ونكابده، يجعلنا نفكر جداً بقيمة أن نكون وحدة واحدة المصير، والأهداف، والرؤى!

هذه الأشياء، بل القيم القيمة تقينا عثرة أن ننزلق أكثر مما نحن عليه الآن، وتعيدنا إلى وعينا الذي غاب، وكدنا نفقده تماماً، لنشعر أننا في عزلة حقيقية غاشمة، بل كأننا حراس تلك العزلة التي تذهب بنا بعيداً جداً في الغياب والغيبوبة، وكأننا خارج المكان والزمان، بل كأننا خارج الحياة والتاريخ ومنظومة الفلك، الذي نعيش فيه، وعلى هامشه أغراباً، أعراباً، غرباء الغياب والغيبوبة، أهكذا يهون الجرح حد الكارثة، ويهون الدم حد التبرؤ منا، ويهون التراب حد أن يخلعنا من جذورنا الهشة، فإذا بنا بلا جذور، ولا هوية، ولا انتماء نعيش على بقية اسمها وطن، وخليط من الأماني والذكريات، والتهويمات العابرة، تشعرنا أننا ماضٍ مضى عريقاً، رائعاً، وأننا حاضر غريب.. غائب.. أشبه ما يكون بالمستحيل، وأننا قادم بلا ملامح، ولا هوية، ولا شيء من أشياء الحياة المعدة للمستقبل.

اللهم.. إلا بقية من أمل خارج من قيعان الألم.. نتمسك بها بضراوة، من حلاوة الروح، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!

العدد 1140 - 22/01/2025