الكذب ملح الرجال

لم تكن وسائل النقل متوفرة آنذاك، ومسير مئة كيلومتر ذهاباً ومثلها إياباً، من (الجبل) إلى الشام، على ظهر الجمل مرة ثانية، ليس بالأمر اليسير..

احتار الرجل في أمره، وجعل يضرب أخماساً بأسداس. والطامّة الكبرى (قال الرجل في نفسه) إذا فَقَدَ غلة بيدره لهذا العام أثناء سفره. وأما الصغرى، فهي قبول التاجر إعطاءه ما انتقى من حاجيات، ديناً إلى الموسم القادم..

أحس التاجر، بما يَعْتملُ في صدر الرجل، فبادره سائلاً:

– إن كانت المعضلة في مال نسيته أو ضاع.. فأتني بكفيل، ولك ما تريد؟

أجاب الرجل من فوره:

– تكفلني.. شعرة من شاربي.

وافق التاجر، واتفق مع الرجل على موعد السداد. فمشّط الأخير شاربيه، ثم سحب شعرة لفَّها بمنديل أبيض، ناوله للتاجر، طالباً منه الاحتفاظ به لحين عودته.

***

سرد الرجل في القرية، قصته مع التاجر الشامي، فأُعجب (بالقصة) أحد الحضور، وقرر الذهاب إلى التاجر نفسه، لجلب ما يقدر على حمله من حوائج..

وكان له ما أراد.. لولا إعماله ملقطاً في شاربيه، نثر معه بضع شعيرات تطايرت. ما أضحك التاجر الذي استوقفه قائلاً:

(كُفَّ عن هذا يا رجل.. فوالله هذا النتف، لا ينمُّ عن نية في السداد)

***

لم نبغِ من هذه الحكاية دعاية، لمسلسل (أيام شامية جديد لجبل العرب)، فقد يأخذ حينها عشرات الأجزاء. ولكنّا نرمي إلى هدف الحكاية ومضمونها، والتي اعتاد أجدادنا سردها، لتعليم الصغار، ولعظة يعتبر منها الكبار..

كان الرجل، في القديم غير البعيد، يُمسَك من لسانه، دون الحاجة لإبرام العقود، وفي حال تراجعه، يُنبذُ من قِبَل الجميع، ويتطوع واحدٌ من أقربائه لتنفيذ المطلوب وعلى حسابه، حفاظاً على المروءة، وعدم انتشار الكذب.

أما الآن فلم تعد كلمة الشرف ولا الشهود ولا العقود حتى، تنفع مع الذين يضعون نُصب أعينهم عدم مخافة الله، فلو طُلب قسم اليمين من أحدهم، قال في نفسه: لقد جاء الفرج..

وذلك ليس على مستوى القرية أو المدينة فحسب، فاليوم صار الناس يسمعون ويشاهدون على شاشة التلفاز، تصريحاً من مسؤول كبير لأهم دولة في العالم، ليعود في اليوم التالي لتغيير أقواله وتكذيب نفسه.. لقد صارت القاعدة المتعارف عليها، هذه الأيام: (الكذب ملح الرجال.. وعيب ع اللي بيصدق).

العدد 1140 - 22/01/2025