اليد التي تصفق
من قال إن اليد الواحدة لا تصفق؟
أظن أنه لم يطلع على تجارب المؤسسات والدول التي أثبتت بالدليل القاطع أن يداً واحدة تكتب وتعزف وتغني وتصفق وتطلق النار أيضاً.
في واحدة من قصص عزيز نيسين الرائعة التي سُرقت ونُهبت وخُطفت مراراً، خاصة من كتاب الدراما، كتب المبدع الراحل بعنوان (كيف أصبح سالم إسبر وزيراً للخارجية) عن ضابط صغير مهمل في إدارة ما، يأتي إلى دوامه صباحاً كالعادة، يفاجأ بأن المبنى خلية نحل، وأن البلاد شهدت انقلاباً ليل أمس، ويبدو له جميع زملائه في العمل هناك ضباطاً وصف ضباط وجنوداً مشاركين في تخطيط الانقلاب وتنفيذه سواه، يبدأ بشتم نفسه وتعنيفها على هذه البلادة والغباء، ثم يجلس على طاولة مكتبه ويضرب أخماساً بأسداس، فتخطر له فكرة، ربما كان الجميع مثله لكنهم يتحركون ويحملون أوراقاً ويركضون في الكريدورات ليظهروا انتماءهم وولاءهم للعهد الجديد وليحجزوا موطىء قدم لهم فيه.. لماذا لا تفعل مثلهم يا غبي؟
يخرج من مكتب إلى آخر وهو يحمل رزمة أوراق، ينادي على هذا العريف وذاك المجند، خذ هذه لأبي فلان، أعد هذه إلى الديوان.. إلخ.
فجأة يلمحه (معلمه) المشغول جداً يبدو أكثرهم انشغالاً : تعال بسرعة!
يركض إليه قائلاً في نفسه: جاء الفرج..
جهز دورية مع سيارة (ستيشن) وجئني بهذا.. ما اسمه؟.. إي إي.. صالح إسبر، مثل البرق..
وسلمه ورقة عليها عنوان منزله..
اندفع صاحبنا إلى تنفيذ مهمته الإنقاذية، لمّ الرجال بسرعة، وأمر السيارة بالتوجه فوراً إلى العنوان..
يدق الباب بعنف، يخرج الرجل وهو بالبيجاما سائلاً عن سبب الدق العنيف في هذا الوقت الباكر.
(يبدو عليه العز هذا المعارض الحقير).. يردد بينه وبين نفسه.
يأمر برميه في الصندوق الخلفي للسيارة، بعد عدة كفوف ورفسات، رغم صراخ الرجل وتهديده بأن هناك خطأ ما، وأنه (ما بيعرف مع مين عم يحكي).. لكن هيهات.
يقوده من ياقته مدمّى مكسوراً إلى الدرج ثم الكريديور المؤدي إلى مكتب المعلم..
ما إن يشاهده المعلم حتى يصرخ به: (شو ما بتفهم إنت؟! هذا سيكون وزير خارجية العهد الجديد)!
بعبقريته الرائعة يؤرخ نيسن لآلاف الحوادث المشابهة.. مثلاً.. هكذا أصبح السيد م مديراً لأهم مؤسسة في البلد وبقي فيها حتى وافته المنية، ولو رزقه الله بنسل لأورثها لأولاده من بعده، لكنه -دخيل اسمو- أراد أن يبقيه فريد عصره وزمانه وحرمه من التكاثر أيضاً رغم الملايين التي صرفها من أجل تخليد نموذجه..
كان من أفشل المهندسين في دائرته، وإذا كان الفشل أحياناً خارج إرادة البني آدم، إذ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فإنه كان إضافة إلى ذلك من النوع اللي (بايعها برسمالها) فلا يلتزم بدوام ولا يعرف أي تفصيل صغير في العمل المسؤول عنه، يعني باختصار الرجل خالي الوفاض.
لكن، ولا بد من لكن هذه.. كان لديه أخ طبيب من أشهر أطباء البلد، وصادف أن مرض الرجل المهم، فبحثت الحاشية عن أفضل طبيب مختص في مرض (المعلم)، ولم يجدوا أفضل من شقيق الأستاذ، ما حصل لاحقاً أنه دام عزه تماثل للشفاء، وطلب الطبيب، شكره، وقال له: اطلبْ تجَبْ.. صفن الطبيب، هو ليس بحاجة إلى المزيد من المال، تذكر أخاه الفاشل المرمي في وظيفته المهملة، فطلب منه تحسين وضع أخيه المهندس في المؤسسة الفلانية..
وكان أن صدر بسرعة البرق قرار بتعيينه مديراً لدائرته وسط ذهول كل من يعرفه، بل حتى ذهوله هو أيضاً.
ولم يطل به الأمر حتى تم رفعه إلى أعلى وأعلى ليصير مديراً للمؤسسة العملاقة، ونجماً تلفزيونياً وصحفياً، بعد آلاف المقابلات والريبورتاجات عنه وعن نشاط مؤسسته التي أحياها وهي رميم.. ما حصل أن المؤسسة التي أعيد ترميم مبانيها وتأثيث مكاتبها وتبديل سياراتها قد دخلت خلال فترة قصيرة (غوما) مزمنة، وأصبحت تعيش على الهبات الحكومية والإعانات، فيما صار المدير وعدد من حاشيته من رجال الأعمال الكبار بالبلد، ولو من خلف ستار أسماء وهمية هم غالباً إخوة المدام وأبناء العم والخال..
لكنه بقي على كرسي الإدارة، كيف لا وهو صاحب الفضل الأول والأخير عليه، حتى وافاه الأجل وهو يناضل ويكافح ويجاهد من أجل تطوير المؤسسة والبلد وتحديثها.
ما إن أغمض عينيه حتى سارعت الجهات المعنية إلى تأبين المؤسسة بعد الاعتراف بخسائرها خسائره الفادحة، وإلحاقها بمؤسسة أخرى ما زال فيها رمق، ودخل الأستاذ الجهبذ طي النسيان، فيما بقيت (الحامولة) تتنعم بالترف ورغد العيش.