لماذا كان ماركس محقاً؟! (21)
لقد أصبحت هذه الإصلاحات جزءاً من تكويننا النفسيّ. وقناعاتُنا تتأثر بمقدارٍ أقل بالأفكار لحدِّ ذاتها من تأثّرها بالأفكار التي تجد طريقها للتطبيق في الممارسات الاجتماعية. وإذا استطعنا تغيير هذه الممارسات، وهذا أمر في غاية الصعوبة، فمن المحتمل أن تتغيّر وجهات نظرنا أيضاً في نهاية المطاف.
وأغلب الظن أنه لم يعد من الضروري منعُ البعض منّا بالقوة من قضاء (حاجته) في شارعٍ رئيس. بما أن ذلك ممنوع قانوناً ومحتقر اجتماعياً، فقد أصبحت لنا طبيعة ثانية عدمُ الاستجابة لضغط (الحاجة). وهذا لا يعني أن البعض منا لن يفعلها عند الضرورة القصوى في الشوارع الجانبية، وعندما تكون المقاهي قد أغلقت أبوابها، لكنه يعني أننا لم نعد نفعلها بالكثرة التي كانت شائعة سابقاً. وقانون السير البريطاني الذي يُلزمنا بالسير على يسار الطريق لا يدع البريطانيين يفكرون بالرغبة في السير على يمين الطريق. فالمؤسسات تطبع تفكيرنا ومشاعرنا بطابعها. وهي أدوات تربوية. نحن نتصافح عندما نتلاقى، ولا نفعل ذلك لأنه أمر شائع فقط، بل لأننا نشعر أيضاً، لأنه أمر شائع، بالدافع الداخلي للقيام بذلك.
قد يطول الوقت الذي تتبدّل فيه مثل هذه العادات. والنظام الرأسمالي احتاج إلى قرون من أجل إلغاء بعض المشاعر الموروثة من عصر الإقطاع، على الرغم من أن السائح الواقف أمام قصر الباكينغهام (Buckingham Palace) سيكتشف بسرعة أن العديد من المناحي قد أُهملت بما يستحق العقاب. ونأمل ألا يطول الزمن كثيراً حتى نعيش في نظام اجتماعي لا يضطر فيه تلاميذ المدارس ألا يصدّقوا آذانهم إذا سمعوا في مادة التاريخ أن ملايين من البشر ماتوا، مرّة ومرات، جوعاً، بينما كانت هناك حفنة صغيرة من البشر من الذين كانوا يُطعمون كلابهم الكافيار. وسيبدو هذا للتلاميذ أمراً غير معقول ومقرفاً في الوقت ذاته، كما يبدو لنا الآن تصوّرُ معاقبة إنسان ملحدٍ ببقر بطنه أمراً غير معقول ومقرفاً أيضاً.
إن ذكر تلاميذ المدارس يشير إلى أمر هام. فكثير من هؤلاء التلاميذ هم مؤيّدون متحمّسون لحماية البيئة، ويشعرون بالاشمئزاز والارتياع عند سماع أن عجول البحر (الفقمة) تُقتل، وأن الهواء والمياه تُلوَّث. وبعضهم يغضب لمجرّد سقوط أوساخ صغيرة على الأرض. وهذا ما يعود إلى التربية الحديثة، ليس بمعناها الضيّق، بل لأن طرق تفكير ومشاعر جديدة أصبحت تؤثّر في جيل جديد لم تعد عادات التفكير والإحساس القديمة متجذّرة فيه. لا أحد يدّعي بالطبع أنه يمكن إنقاذ الأرض بذلك. وهناك أطفال قادرون أيضاً على قتل سنجاب وديع.
ورغم ذلك، من الواضح أن التربية تستطيع إفراز قناعاتٍ وطرق تصرّف جديدة.
إذاً، التربيةُ السياسية ممكنة دائماً. دار النقاش في أحد المؤتمرات في بريطانيا خلال سبعينيات القرن الماضي حول ما إذا كان الإنسان يمتلك بعض العلامات المميّزة العالمية. نهض رجل وقال: (نحن كلُّنا لنا خصى). فنهضت امرأة من بين الحاضرات وقالت: (هذا غير صحيح). كانت الحركة النسويّة آنذاك في بداياتها في إنكلترا. لذلك اعتبر كثير من الرجال ردَّ المرأة شيئاً مستهجناً، حتى أن بعض النساء الحاضرات قد تلبّدت وجوهُهُنّ خجلاً. ولو عبّر هذا الرجل بعد عدّة سنوات عن رأيه بهذه الطريقة الفجّة، لوقف برأيه هذا وحيداً واستثناء منبوذاً.
اعتُبر البخلُ في أوربا العصور الوسطى وبداية العصر الحديث من أكبر الرذائل. ومن هناك إلى شعار الوولّ ستريت ( Wall-Street ) (الجشع ينفع) كان مشوار طويلاً من عملية إعادة التربية المركَّزة. ولم يكن مؤيّدوها بالدرجة الأولى معلّمين أو دعائيّين محترفين، وانما هي تغيّرات تدريجية في طريقة حياتنا المادّية. اعتبر أرسطو العبوديّة أمراً طبيعيّاً مسلَّماً به، حتى وإن كان لبعض فلاسفة العصر القديم رأي آخر، كما اعتقد أنه مما يتنافى مع طبيعة البشر أن نُنتج بضاعة اقتصادية بقصد الربح. وهذا ما لا يتوافق مع رأي دونالد ترمب ( DonaldTrump، (متعهد أمريكي، مالك ناطحات سحاب، له باع طويل في مجال العقارات – إضافة من المترجم) عبّر أرسطو عن وجهة النظر هذه انطلاقاً من سبب وجيه مفادُه أنه يكمن في كل بضاعة شيء، أطلق عليه ماركس لاحقاً اسم (القيمة التبادليّة)، يؤهّلها للتبادل مع بضاعة ثانية، وهذه مع ثالثة، وتلك مع رابعة، وهكذا إلى ما لا نهاية، أي شكل من اللامحدوديّة التي لا تتوافق مع جوهر الإنسان المخلوق المحدود).
وفي العصور الوسطى كان هناك منظِّرون اعتقدوا أن تحقيق الأرباح شيء غير طبيعي، لأن طبيعة الإنسان كانت عندهم متماهية مع طبيعة الإقطاع. ربما كان لدى مجتمع الصيد والجني تصوّر مبهم مماثل عن نظام اجتماعي ما مغايرٍ لمجتمعهم. واعتقد آلان غرينسبان (AlanGreenspan (، رئيس البنك الاحتياطي الأمريكي سابقاً، طيلة فترة طويلة من حياته المهنية، أن ما يُسمّى اقتصاد السوق الحر متجذّر في الطبيعة البشرية، وهو ادّعاء باطل بطلان الرأي القائل بأن الإعجاب بكليف ريتشارد (Cliff Richard)، (مغنّي بوب بريطاني، منحته الملكة إليزابيت الثانية عام 1995 مرتبة فارس) هو شيء مشترك بين جميع البشر في العالم. وفي الواقع، يُعتبر اقتصاد السوق الحر اختراعاً حديثاً جداً من الناحية التاريخية، إضافة إلى أنه بقي مدّة طويلة محصوراً في منطقة صغيرة من الكرة الأرضية.
ويسري شي ء مشابه على من يعتقد بأن الاشتراكية لا تتوافق مع طبيعة البشر، لأنه يجعل، بقصر نظر، هذه الطبيعة متماهية مع طبيعة الرأسمالية، ولكان الطوارقُ عنده، إذاً، في وسط الصحارى، وفي سريرة قلوبهم، من أصحاب العمل الرأسماليين الذين سيشكّلون سراً بنك استثمارات. أما أن نقول بأنه ليس لديهم أية خبرة في عمل بنوك الاستثمارات، فهذا أمر غير هام. إلا أنه لا يمكننا أن نتمنّى شيئاً ليس لدينا عنه أية فكرة. ولا يمكن أن أتطلّع إلى أن أكون سمساراً في إحدى البورصات، إذا كنت عبداً في أثينا. يمكنني أن أكون جشعاً ومحباً لتكديس الأرباح، وأن أجعل المنفعة الشخصيّة ديني وديدني، لكنني لا أستطيع أن أكون في سرّي رأسمالياً، كما لا يمكنني أن أحلم بأن أكون مختصاً في جراحة الدماغ، إذا كنتُ أعيش في القرن الحادي عشر.
قلت فيما سبق بأن ماركس قد رأى الماضي بشكل متشائم جداً، والمستقبل بشكل مفرطٍ في التفاؤل. وهناك عدة أسباب لذلك، لكن هناك سبباً واحداً ذا علاقة وثيقة بما نحن الآن بصدده. لقد رأى الماضي بهذا الشكل القاتم لأن هذا الماضي لم يشمل سوى تتابع مراحل من الاضطهاد والاستغلال. قال تيودورف. أدورنو (Theodor W. Adorno) مرّة بأن المفكّرين المتشائمين (كان يفكّر عندئذ بفرويد وليس بماركس) أكثرُ أهميّة بالنسبة لتحرر الإنسانية من المفكّرين المتفائلين، لأنهم يلفتون نظرنا إلى مظالم تستوجب المعالجة، كادت أن تُنسى. وعندما يلفتون نظرنا إلى ظروف سيئة، فإنهم يدعوننا إلى القيام بشيء مضاد. إنهم يُجبروننا على الشعور بالراحة النفسية دون تعاطي المخدرات.
تأليف: تيري إيغلتون