لماذا نحن بحاجة إلى تدريب الطفل على التفكير الإيجابي؟
نعيش اليوم في عصر لعبت فيه وسائل الاتصال الحديثة دوراً مهماً، فهي تُقدم للناس كمية كبيرة من المعلومات والمعارف الجاهزة منها موّجه ومنها غير موّجه، فهذه الثّورة في وسائل الاتّصال تُنذر بانتهاء دور التّفكير وتدفعه إلى الاستقالة والتّقاعد عن العمل والبحث والانتقاد، فما يتدفق من معلومات تعمل على تعطيل المخ، وقد أكد الباحثون أنّ قشرة المخ لا تنمو إلاّ إذا عاش أصحابها في بيئة ثرية تُحفزها على البحث وعلى المزيد من عمليات التّكيّف والاكتشاف.
وفي ظل هذه المتغيرات يطالب قادة المجتمع التّربية المدرسيّة بضرورة إعادة النّظر بدور المدرسة بوصفها مؤسسة، كي تتمكن من التّلاؤم مع ظروف التّفجر المعرفي الرّاهن، فلا بدّ من تجاوز الدّور التّلقيني الّذي كان وما زال سائداً إلى حد كبير في نظامنا التّربوي وفي أنشطتنا المدرسيّة، والبحث عن طرائق أكثر فاعلية وعن وسائل تعليمية تعتمد على تقنيات تستفيد من الثّورة العلمية والتّكنولوجية وتوظفها في رفع مستوى التّعليم، والعمل على تدريب المتعلّم على كيفية التّفكير من خلال رفع مستوى مخرجات التّعلم لتخدم المتعلّم وتحفزه على مواصلة تعلّمه بتُمليكه أدوات التّعلم الذّاتي ومفاتيحه، الّتي تُحرره من الاستسلام للآراء الجاهزة والأفكار المعلّبة، وتعمل على:
1. تكوين عادة التّفكير الموضوعي لديه.
2. ابتعاد الفكر عن الأحكام المطلقة الّتي تمنعه من أن يكون مرناً وعن رؤية الأشياء والأحداث في تغيّرها وحركتها.
3. يصبح لدى المتعلّم القدرة على الكشف بوساطة الحوار والتّساؤل والبحث عن التّناقضات، ويعمل على اكتشاف الصّحيح من الخاطئ بأسلوبه الخاص مما سيساعده على إنتاج أفكاره الخاصة، ما سيدفع إلى تحرر المتعلّم من الرّأي الآخر وعدم الخضوع والاستكانة لسلطة الفكرة الّتي تصله بوساطة المطبوعة أو الّتي تُصدّر إليه من وسائل الإعلام.
4. تنمية التّفكير النّاقد لديه، الّذي يهدف إلى تصحيح المفاهيم الّتي سبق أن تعلّمها وفتح المجال أمامه للتأمل والتّدقيق وفحصها بمزيد من الجهد والصّبر.
تهدف النّقاط السّابقة إلى خلق جديد قادر على مواجهة المشكلات الّتي تعترضه والّتي تحدث لديه نوعاً من عدم التّوازن يصعب عليه في البداية مواجهتها وإيجاد الحلول المناسبة لها. لأنّه من المعروف أنّ الإدراك الأولي للمواقف الّتي تواجه النّاس لا يكون قادراً على إفساح الفرص أمامهم لإعطاء الحلّ الصّحيح لها، ولأنّ الموقف يتطلب إعادة النّظر في الوسائل الّتي يجب أن تواجه بها المشكلة، والعمل على تنظيم الموضوع تنظيماً جديداً يساعد على تصحيح الإدراك، بشكلّ يستطيع النّاس فيه تنظيم سلوكهم بوساطة تخيلهم للنتائج الّتي سيحصلون عليها بجهودهم، أي بفتح المجال أمامهم ليقوموا بعملية تنظيم ذاتي للمدركات، لذلك نحن بحاجة إلى تدريب متعلّم يكون في حالة تعلّم دائم ومستمر لا ينتابه الجمود ولا يصل إلى حالة من السّكون والرّكود، ويكون قادراً باستمرار على القيام بعمليات الملاحظة والوصف والفهم والتّنبؤ، لأن من شأن هذا النّمط أن يستمر لفترة طويلة ونتائجه تكون أكثر عمقاً وأبعد أثراً في سلوك المتعلّم واتجاهاته. لذلك تعمل السياسة التّربوية اليوم على تدريبه على عمليات البحث والتّأمل وتحليل المعلومات وتنظيمها ووضع أفضل الحلول لها، ولا يتحقق ذلك إلاّ بمشاركة المتعلّم بفعالية خلال مراحل تعلّمه كافة. وهذا يعني ألاّ نحصر فكر المتعلّم بعادات فكرية محددة يعتاد عليها، وقد ذكر (بيتر فارب) في كتابه (النّوع الإنساني) قصّة توضح أنّه عندما يدع الإنسان بعض العادات الفكرية تسيطر على فكره لا تساعده على إيجاد الحلول المناسبة دائماً.
(… حدث أن انحشرت سيارة شحن كبيرة تحت جسر حديدي قليل الارتفاع في إحدى الولايات الأمريكية، ولم يعد السّائق يستطع تحريكها فاستدعي المهندسون وخبراء الجسور من الشّركة الّتي قامت ببناء الجسر لإيجاد الحل لهذه المشكلة، فتقدموا باقتراحات عديدة أهمها فك الجسر ثُمّ رفع القطعة الوسطى منه بوساطة رافعات ضخمة، لأنّهم خبراء ببناء الجسور فتفكيرهم في حلّ المشكلة كان منصباً على الجسر وكيفية رفعه حتّى تتمكن الشّاحنة من الخروج من تحته. ولكن شاباً صغيراً كان يبيع الصّحف ولا يعرف شيئاً عن هندسة بناء الجسور جاء بفكرة أفضل بكثير مما اقترحه المهندسون الخبراء، وهي تخفيف الهواء من عجلات الشّاحنة فيقل ارتفاعها بقدر يحررها من هذا الحشر، وهكذا نجح الاقتراح بجهد ووقت أقل بكثير ودون أية كلفة).
يدلنا ذلك على أهمية ألاّ ندع المتعلّم أسير طريقة واحدة أو طرائق محددة، وإنما استخدام تقنيات مختلفة متعددة الاتجاهات، وإعطاء الحرية الكاملة في البحث والمناقشة والمنافسة، بشرط أن يكون جو التّعلم مفتوحاً للنقاش والحوار الّذي هو كفيل بتحرير المتعلّم من التّأثر بما لدى الآخرين مثلما يحدث مع التّلاميذ اليوم، إذ نراهم يسعون وراء المسائل المحلولة والملخصات والمواضيع الأدبية الجاهزة بدلاً من اكتشافهم للحلول وكتابتهم للمواضيع بأنفسهم وبذلهم جهداً ذاتياً كفيلاً بتطورهم.
أخيراً.. إنّ أهم خطر يمكن أن يواجهه أي مجتمع هو التّعليم والتّدخل الخارجي في السياسة التّربوية – التّعليمية وذلك عن طريق وسائل الإعلام والبرامج الّتي تبثها القنوات الفضائية والتّدخل في المناهج الوطنية الخاصة بالمجتمع الواحد، لذلك يجب أن يعمل قادة المجتمع بجدية أكبر لخلق متعلّم نشط قادر على مواجهة المشكلات بإيجابية، وذلك بتدريبه على الصّبر وقوّة الاحتمال واعتياد تحمّل المسؤولية سيزيد من شعور المتعلّم بالثّقة في نفسه، وتصف (ألما بنغهام) مثل هذا المتعلّم بقولها: (يتقن فهم العمليات العقلية الّتي يتطلبها حلّ المشكلات، ويعمل على استخدام طاقاته العقلية في التّغلب على مشكلات الحياة المعقدة دائماً، ولديه شغف في استخدام مواقف التّحدي لتنمية قدراته تنمية متكاملة، مثل هذا المتعلّم يكون مستعداً دائماً لمواجهة الحاجات الّتي تتطلبها بناء حضارة دائمة التّجديد والتّغيّر).
المصادر والمراجع:
عالم المعرفة، العدد 67 – مجلة عالم المعرفة – 1983 – ألما بنغهام – تحسين قدرة الأطفال على حلّ المشكلات.
بحث في تعلّم حلّ المشكلات وتنشيط التّفكير/اسماعيل ملحم.