رحيل ستيفن هوكينغ… عاشق الكون وضع الفيزياء في متناول الجماهير

(هدفي بسيط للغاية. إنّه الفهم الكامل للكون، ولماذا هو كذلك، ولماذا وُجد أساساً)- ستيفن هوكينغ

بصمتٍ وعظمة، رحل ستيفن هوكينغ، أمس الأربعاء تاركاً إرثاً علميّاً ضخماً في علم الكون والفيزياء النظريّة. يعتبر هوكينغ، من دون مبالغة، من العلماء الأكثر تأثيراً سواء في الوسط العلميّ أو الشعبيّ في عالمنا المعاصر منذ رحيل المعلّم الأكبر ألبرت أينشتاين قبل خمسة عقود.

ميزة هوكينغ الأبرز، إلى جانب تفوقه العلمي الذي يجاريه فيه كثيرون، كانت إدراكه أيضاً أنّ العلم ليس مفصولاً عن حياتنا بمفاصلها كافة، وأنّه ليس حقلاً للترف النظريّ والعزلة عن مجريات العالم. بل على العكس، كان شديد الاهتمام بالواقع الاجتماعي وبالحياة الإنسانيّة، راهناً ومستقبلاً. وكان يرى أنّ العلم وتطوّره لا يكونان إلّا في خدمة الإنسانيّة لذلك لا يمكن فصلهما عنها.

على الرغم من إصابته في عام 1963 بالتصلّب الجانبي الضموري الذي أعاق حركته بشكل كامل عندما كان عمره اثنين وعشرين عاماً فقط، وتوقّع الأطباء بألا يعيش أكثر من عامين مع تطوّر المرض، غادرنا هوكينغ عن عمر 76 عاماً. وصف الراحل لاحقاً تلك الفترة العصيبة التي ملأت رأسه تحسّراً على حظٍّ عاثر في الحياة، وكيف تمكّن منه مرض عصبي ولم تُتح له فرصة تفجير طاقته الذهنية التي كانت بدأت تتظهّر في دراسته الأولى، وأحسّ أنّ هناك الكثير من العطاء الذي يمكنه أن يقدّمه لولا الموت الداهم الذي كان يحدّق به بحسب تشخيص الأطباء. صمّم ستيفن أن يعيش لدنياه كأنّه يعيش أبداً، وقرّر أن يستكمل دراسته في الاتجاه الذي أحبّه: الفيزياء. أقعده المرض ولازم كرسيّه المتحرّك، لكنّه استمرّ في عمله مواجهاً الصعاب. مرّت السنون، وتقدّم في أبحاثه ولم يتقدّم منه الموت. استقرّت حاله على كرسيّه، وانبثقت أفكاره واحدةً تلو الأخرى. كان مشاغباً ومرحاً في أطباعه، إذ بعدما كان يرفض فكرة الكرسي المتحرّك لوقت طويل، وجد فيها وسيلةً لممارسة مرحه أيضاً، فكان يجول بواسطتها مسرعاً كالدراجات في شوارع كامبريدج التي انتقل إليها من جامعة (أوكسفورد) لإتمام دراسة الدكتوراه في جامعتها. كان يلاحق زملاءه في الجامعة ليدوس بعجلات كرسيّه على أصابعهم، ويدخل حلبات الرقص بين الطلّاب ليقوم بحركات دوران استعراضية بينهم على دواليب كرسيّ دوّار. تطوّر المرض بشكل بطيء، أعطاه فرصة للحياة. فعاش من بعدها خمسين عاماً من المرح والجدّ والإصرار، ووضع لنفسه هدفاً استراتيجياً صعباً: فهم الكون وسبر أغوار معادلاته، وتطويع الرياضيات لفهم فيزيائه.

أولى خطواته كانت في الأبحاث التي قام بها في السبعينيات مع العالم المميّز الآخر ردوجر بنروز، الذي شارك هوكينغ نبوغه ولم يشاركه شهرته. أثبت مع بنروز أنّ الحلول الرياضيّة لنظريّة النسبية العامّة التي وضعها ألبرت أينشتاين وطبّقها على الثقوب السوداء، تشير إلى أنّ هذه النظريّة تقود إلى وجود فرادة (singularity) ذات كثافة وطاقة لامتناهية في ماضي الكون السحيق، اجتمعت فيها كل المادّة المشكّلة للكون الآخذ في التوسّع؛ وهذه الفرادة هي حيث حصل الانفجار الكوني العظيم قبل مليارات السنوات في لحظة تعتبر بداية عمر الكون الذي نعرفه. هذه الخلاصة، التي وصلا إليها عبر معادلات رياضيّة معقّدة مبنية على نظرية النسبية العامّة كان قد وصل إليها العالم السوفييتي جورج غاموف قبل عقدين منطلقاً من فرضيات أخرى حول الظروف الملائمة لتشكّل المواد الثقيلة دون إثباتات نظريّة نسبيّة ورياضيّة، سرعان ما صارت النظرية الرسمية لماضي الكون. لقد وجد العالمان الشابان حلولاً لمسألة أساسية ليس فقط على المستوى العلمي، بل أيضاً على المستوى الوجوديّ والفلسفي. صار هوكينغ اسماً علمياً معروفاً، وانطلق يبحث في المواءمة بين النظريتين العلميتين الأهم في عالم الفيزياء، وهما النسبية العامّة والفيزياء الكموميّة. هذا المسار حاول أيشنتاين قبله أن يسلكه، وهو مسار صعب ما زال يعمل عليه مئات العلماء حتى اليوم للوصول إلى نظرية موحّدة للفيزياء والطبيعة، لكنّه تبيّن أنّه مسار طويل. طبّق هوكينغ أفكاره الكمومية على الثقوب السوداء، التي تبتلع كلّ شيء من مادة وضوء وأشعّة حولها ولا يخرج منها شيء، فتمكّن من إثبات أنّها (تتبخّر) تدريجياً نتيجة ظاهرة كموميّة.

هذه العملية التي تأخذ أوقاتاً طويلة في الثقوب السوداء الكبيرة، يمكن أن تحصل بشكل أسرع في الثقوب السوداء الأخفّ وزناً. عملياً، قلبت تلك النظرية فهم العلم للثقوب السوداء بشكل كبير. فبعدما كان جسماً يأخذ ولا يعطي، ولا نعرف أي آليّة تتيح خروج المعلومات أو المادّة منه، وبعدما ظلّ هذا الموضوع لغزاً، أثبت هوكينغ بما يقطع الشكّ باليقين أن المادّة في الثقوب السوداء تتبخّر منه إلى الخارج عبر إطلاق أشعّة كمومية سميت لاحقاً باسمه وصارت تعرف بـ (أشعّة هوكينغ) (Hawking Radiation). وصل هوكينغ إلى تلك النتيجة وكان لا يزال في الثلاثينيات من عمره، ونشر بحثه هذا الذي صار ركناً أساسيّاً من مكوّنات فهمنا لظاهرة الثقوب السوداء المنتشرة بشكل واسع في كوننا وفي مجرتنا أيضاً. أثارت تلك النظريّة أسئلة وصراعات حول إذا ما كانت عملية تبخّر الثقب الأسود تحفظ المعلومات التي ابتلعها سابقاً أمّ أنّنا نخسرها نهائياً وظلّت مسألة بحثيّة شائكة. غيّر هوكينغ رأيه في هذه المسألة ولم يتوانَ عن إظهار ذلك إذ عاد وقال إنّ المعلومات لا تتمّ خسارتها بعدما كان يعتقد عكس ذلك. خلال سنوات قليلة من البحث، تبوّأ هوكينغ أرفع مركز علمي في (جامعة كامبريدج) إذ نال صفة بروفسور (كرسيّ نيوتن) في الرياضيات الذي سبق أن شغله الرائد الأوّل في الفيزياء المعاصرة إسحق نيوتن، ومرّ عليه لاحقاً علماء مرموقون مثل بول ديراك، أحد روّاد الفيزياء الكموميّة. استمرّ في أبحاثه الرائدة في العقود التي تلت واعتُبر من أهمّ الفيزيائيين المعاصرين.

حقق هوكينغ نجوميّته بين العموم في أواخر الثمانينيات عندما نشر كتابه (موجز في تاريخ الزمان) الذي يلخّص فيه الفهم الفيزيائيّ للكون وللنسبيّة والفيزياء الكمومية بلغة سهلة ومن دون أي معادلات رياضيّة وبهدف إيصال هذه الأفكار لعامّة الناس غير المتخصصين في هذا الحقل العلمي. وبالفعل، انتشر الكتاب كالنار في الهشيم فباع عشرات ملايين النسخ وترجم إلى أربعين لغة، وصار كاتبه عالماً معروفاً في أرجاء المعمورة بعد أن كان لعقود عالماً مميزاً في أوساط الأكاديميين.

في عام 1985، أصيب بالتهاب رئوي حاد كاد أن يقتله، لكنّ عمليّة جراحية أنقذت حياته، وأفقدته صوته. صار العالم الأبرز مُقعداً وغير قادرٍ على الكلام. هدّد ذلك مسيرته وإمكانيّة استمراره في البحث وفي التعبير، إذ صار معوّقاً حركيّاً ولفظيّاً. أنقذته علوم الكومبيوتر والبرمجيات، فأتيح له استخدام الجهاز القادر على تحويل الأوامر العصبية في أوتاره الصوتية إلى أصوات فعليّة فعادت إليه مجدداً قدرته على التعبير. لم تصب كلّ توقّعات هوكينغ، وخسر رهاناً ودياً على أنّ العلماء لن يتمكنّوا من رصد جزيء (هيغز) الذي توقّعت نظرية الجزيئات وجوده منذ الستينيات، إذ رصده العلماء في عام 2012 في اختبارات مفاعل CERNفي سويسرا. قارب المسائل بعمق وبمرح في آن فقال يوماً: (علينا فقط أن ننظر إلى أنفسنا كي نرى كيف يمكن للحياة الذكيّة أن تطوّر إلى أشياء لا نودّ أن نراها على الإطلاق).

ربّما لم يكن من أهم العلماء في تاريخ الفيزياء، لكنّه كان صرحاً أساسيّاً في علوم الكون الحديثة وكرّس نفسه بين كبار العلماء. كذلك كرّس هوكينغ مسيرة كفاحيّة ضد صعاب الحياة ومعوّقاتها، وضد عزلة العلم عن الناس فكان شخصيّة متكاملةً حجزت لنفسها موقعاً مميزاً في تاريخ العلوم.

لم يتردّد هوكينغ في المجاهرة بآرائه السياسية التي تدين (إسرائيل)، وعبّر خلال العدوان الأخير على غزّة عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني. كذلك، عمل مع حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية للعلماء الإسرائيليين في بريطانيا، وصرّح عن ذلك مراراً إعلاميّاً. نشط في مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام في السبعينيات، وضدّ غزو العراق في 2003، ورأى مؤخراً في الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطراً على الاستقرار العالمي، وأيّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي. أيّد زعيم حزب العمّال اليساري جيريمي كوربين في انتخابات عام 2017. كان من العاملين بجديّة في موضوع التغطيّة الصحيّة الشاملة لجميع المواطنين كحق طبيعي لأي إنسان، وواجه المحافظين الذين خفضوا مساهمة الدولة في تكاليف الصحة العامة، وأعطى نفسه مثالاً على كيف يمكن لمَنْ لا يستطيع دفع تكاليف علاجه أن تذهب حياته وأفكاره ومساهماته سدى إذا تقاعست الدولة عن واجبها الاجتماعي في تأمين رعايته. حذّر من استغلال الذكاء الاصطناعي وتطوّر الآلة من قبل فئة قليلة متنفّذة، إذ قال إن (الآلات قادرة على إنتاج كل ما تحتاج إليه البشريّة، لكن النتيجة تعتمد على كيفية توزيع هذا الإنتاج. يستطيع كل الناس أن يتمتّعوا بحياة رغيدة إذا تمّت مشاركة الثروة التي تنتجها الآلات الذكيّة، لكن يمكن أن ينتهي الموضوع بفقر مدقع لمعظم الناس إذا عطّل مالكو الآلات مسألة إعادة توزيع الثروة).

(الأخبار)

العدد 1140 - 22/01/2025