من نمط التفكير «الخطي» إلى التفكير «التشابكي»
1
عالم اليوم شديد التداخل والتعقيد، يمتاز بسرعة متغيراته وتفاعل تأثيراتها، إذ يعجز العقل فيه عن الإحاطة بما أنتجه، لتشابك المحلي بالإقليمي، بالعالمي، في وحدة التشكل والصيرورة.
تفكيك هذا التشابك والتداخل وحل عقده المتعالقة، لا يمكن أن نصل إليه وفق نمط التفكير الخطي، التتابعي، الذي يفضي فيه السبب الأول إلى الثاني، فالثالث، فللواقع منطقه، وقد لا تسير فيه الوقائع وفق الترتيب السببي، إذ يتم الانتقال بكسر التتابع الخطي، وفق منظورات المنطق الشكلي.
نمط التفكير الخطي ينطوي على الكثير من الجبرية والحتمية، التي تصادر حرية التنقل بين مكونات المشاكل (مدخلاتها ومخرجاتها)، وهو يقود أصحابه إلى حالة استلاب ومصادرة لقدرتهم على الإحاطة بتفاعل الأحداث ومعرفة طرق سيروراتها.
وضعنا السوري اليوم بتداخله وتعقّده لا يسعفنا فيه نمط التفكير التتابعي، فنحن بأمس الحاجة إلى نمط آخر من التفكير، يسميه الدكتور سمير مرقص بنمط التفكير (التشابكي)، وهو الذي يعالج المسائل المطروحة في وحدتها العلائقية، فنخرج عن جبرية التسلسل الخطي، ومنطق التتابع السببي. هذه الطريقة في التفكير تربط المحلي بكل مكوناته (أسبابه ونتائجه) بالإقليمي.. بالعالمي، على أساس جدلي يتجاوز الثنائيات الضدية المغلقة، بحثاً عن توسيع دوائر الاتصال وتثبيتها، دون تناسي العلاقة العضوية بين الداخل والخارج، مع تأكيد أهمية المكونات الداخلية، والاعتراف بأن الخارج مهما كان يتمرأى في النهاية ويتشكل وفق قوانين ومعطيات الداخل.
نمط التفكير التشابكي، تمليه ضرورات الواقع، فهو وحده القادر على فهم واستيعاب ما يتفاعل في عمقه، لأن الظاهر لا يعكس بالضرورة ما تجيش به الأعماق، وقياس الموجة، لا يتم على السطح، وإنما في القاع.
للتمييز بين العارض (الطارئ) وبين (التاريخي المتراكم) نحتاج إلى نمط من التفكير قادر على كشف ومعرفة تجليات التاريخي في العَرضي، والكيفيات التي تجعل من تراكم العرضي تاريخياً. وهنا يخذلنا نمط التفكير الخطي في الوصول إلى أحكام يمكن الوثوق بها، وتقربنا من الحقيقة التي تنزاح وتراوغ بشكل دائم. والإمساك بها، يستدعي حراكاً فكرياً بعيداً عن التقليدية والنمطية، هذا الفكر الذي تشكل وتبلور بعد ازدهار المعارف وتنوعها الخلاق في حوارية تغتني بما تحققه كل معرفة في حقلها الخاص. فالعالم اليوم بمقدار ما تميل فيه المعرفة إلى التخصص والغوص في العمق، يحتاج إلى الانتشار في المدى، على أساس مبدأ التطور الأفقي والعمودي، الذي ساعدت على انتشاره ثورتا المعلومات والاتصالات، بانفتاح المكان واختصار الزمان.
2
يقول جاكوبسن: الشعر عنف منظم ضد اللغة. كما يقول آخر: الشعر لغة في اللغة، أي هو خلخلة وتصدع للغة التواصل، وارتقاء بها، وتحرير للعلاقة بين الدالِّ والمدلول، والانتقال بها إلى فضاءات الدلالة الرحبة.
بهذا المعنى تصبح مهمة الشاعر تحطيم ما استقر وما أنجز ضمن علاقات اللغة من داخلها وفي التداول الإبداعي (اللغة والمجتمع) في الصورة وتبعية الأشكال، وتحويلها إلى أصنام للعبادة. عملية التجاوز لا يمكن أن تتم إلا بعد استيعاب وتملك لم تحقق في السابق.
الشاعر ثوري بتكوينه، وطبعه، وممارسته، لا يطيق لحريته أن تؤسر أو تصادر لا من اللغة، ولا من أشكال التعبير الفنية، ولا من أنواع الاستبداد المختلفة.
إذا كانت مهمة الفلسفة فهم العالم، وتفسيره، فقد أصبحت بعد ماركس تهدف إلى معرفة الطرق العلمية لتغيير الواقع، والانتقال به من عالم الضرورة إلى رحاب الحرية… فهل ثمة علاقة ما بين الشاعر والفيلسوف؟
أليس الهدف واحداً!؟ الثورة على الراهن الراكد وتغيير الثابت والمتخلف فيه، وتحطيم الاستقرار الخانع والمفضي إلى الأسون والعفونة. مما لا شك فيه، أن الوسائل مختلفة، والأدوات متباينة، لكن الهدف يبقى واحداً، وهو الارتقاء بالإنسان أساس الوجود وغايته، والعمل على استرداد إنسانيته المهدورة في عالم ربوبية السوق والاغتراب، والارتهان للسلعة، والسعي الدؤوب من أجل إنسان سوي متوازن، يعيش في مجتمع ينتفي فيه كل شكل من أشكال الاضطهاد والاستغلال، ويقضى فيه على العنف، مجتمع تشبع فيه حاجات الناس المادية والمعنوية، ويشعر أبناؤه بأخوَّتهم الإنسانية، ويعملون معاً من أجل قيم الحق والخير والعدل والجمال.
فالشاعر فيلسوف في أهدافه، والفيلسوف شاعر في غايته، فما من شاعر عظيم، إلا وفي داخله فيلسوف بحجم قامته الإبداعية، ولا من فيلسوف كبير إلا وفيه شاعر عظيم، فالشعر والفلسفة (الشاعر والفيلسوف) وجهان لحقيقة واحدة، هي الإنسان في عشقه للحرية، وفي سعيه للانعتاق فرداً ومجتمعاً.
3
الشاعر متمرد على أنماط التفكير السائدة، فهي لا تلبي حاجته، ولا ترضي تطلعه. فبفعل حالته الشعورية، وتوتره الدائم، والقلق المتساكن معه، ومزاجه النزق، وتشظيه بين الممكن والواقع، يحتاج إلى نمط تفكير يسعفه في سبر الواقع والكشف عن أعماقه والتنبؤ بمستقبله. فالتفكير الخطي يخذله، ويجهض إمكاناته، لأنه محكوم بالتمرد على الثبات، ولا بد له والحالة هذه، من التفكير التشابكي بوعي منه أو بغيره. لأن هذا التفكير هو الطريقة الوحيدة التي تحرره من النمطية والمحدودية، والجبرية.
أما الفيلسوف فهو أقرب من الناحية النظرية والمنطقية، إلى نمط التفكير الخطي، لأنه يربط الأسباب بالنتائج، والمقدمات بما تفضي إليه، لكن فلاسفة اليوم، ومفكريه، بسبب التقدم المعرفي، هجروا هذا النمط من التفكير، الذي يقود في النهاية إلى الأحادية، وإلى شكل من الصنمية، إلى رحاب التفكير التشابكي التعددي، تاركين النمطية، خلف ظهورهم، واضعين الوحدة على أساس الاختلاف والتشابك والمغايرة نصب أعينهم.