فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضيسحائبُ ليسَ تنتظمُ البلادَ

ترى هل هي مصادفة أن يتزامن قطع رأس أبي العلاء المعري الشاعر العربي الإنساني الذي وصل شعره وإنتاجه الأدبي إلى قلب أوربا، وتأثر به عظماء كتابها، مع قطع رأس المنوِّر العربي المصري الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي الذي طالبت القوى الظلامية في مصر بإعدامه عام 1926 بعد إصدار كتابه (في الشعر الجاهلي)، فأخفقت في ذلك بعد محاكمة شهيرة حصل فيها المفكر والمؤرخ والأديب طه حسين على البراءة مما نسب إليه من تهم؟!.

الأحقاد القديمة لا تموت، وأيدي الظلام قد تختفي أو تتراجع، تحت وهج أشعة الشمس، لكنها ما تلبث أن تعود متحيّنة الفرص المناسبة لصب حقدها على أعلام الثقافة والفكر والدعوة إلى الخروج من دوائر الانغلاق إلى رحاب الانفتاح.

كيف تستطيع الأيدي الآثمة الاقتراب من تمثال أبي العلاء المعري (الفيلسوف الشاعر) الإنساني النزعة، العالمي التكوين، الذي تجسدت فيه تقاطعات الثقافات الهندية والفارسية واليونانية والسريانية، وانصهرت في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية، فكان من خيرة من مثلوا التفاعل الثقافي الخلاق، والتخصيب الإبداعي، فجاء إنتاجه الفكري، والأدبي، أبهى تجسيد لمبدأ وحدة الثقافة الإنسانية القائم على التنوع.

طه حسين صديق المعري، وشقيقه في محنته العضوية، وصنوه في الدعوة إلى الانفتاح على الثقافات العالمية، فهو أول من ترجم الإلياذة والأوديسة عن اللاتينية مباشرة، فإضافة إلى إتقانه اللغة الفرنسية والكتابة بها، أتقن اللاتينية، فهو جسر بين عصور مختلفة، مهما تباعدت في الزمن، فقد وحَّدتها الثقافة الإنسانية التي تنفي التعصب والانغلاق، وتشرّع نوافذها على رياح الجهات الأربع.

منذ فترة وجيزة صدرت فتوى بهدر دم الشاعر العربي أدونيس، بالتهم نفسها التي وجهت في حينه إلى المعري، وإلى طه حسين، والتي قتل بسببها فرج فوده، فهل يعيد التاريخ نفسه، أم أننا ندور في دائرة مغلقة تعيد إنتاج المواجهات بين الظلام والنور، التقدم والتخلف، الأصالة والمعاصرة، الانفتاح والانغلاق؟.

التاريخ لا يعيد نفسه، لكن الأحداث تتشابه، فالصراع بين النور والظلام، قديم منذ وعى الإنسان فوائد الإنارة والتنوير، وأدرك بخبرته المباشرة، وبثقافته المتراكمة، خطورة الظلمة ومفاسدها. قد تتشابه الأحداث، والوقائع، في الجوهر، لكنها تختلف في المظاهر والأعراض. فمواجهة المعري في عصره، في الجوهر، هي مواجهة طه حسين، في زمنه، وهي مواجهة العلم ضد الجهل، ومحاربة التقدم، والوقوف في وجه التغيير بكل ما يملكه الثبات من رسوخ، بحكم الألفة والعادة، وما يفضي إليه منهج الشك إلى مقاربة الحقائق على أساس التجربة والخبرة العلمية في مواجهة النزعة التسليمية المرتهنة إلى أنظمة الطاعة العمياء.

ما حصل مع تمثال المعري، وتمثال طه حسين، في كل من سورية ومصر، يشير إلى مجموعة حقائق، على رأسها أن المعركة واحدة، وإن اختلفت أشكال المواجهات. إنها ردة إلى ما قبل عصر النهضة المجهضة، بكل ما حمل من تباشير من رفاعة الطهطاوي، إلى شبلي شميل وفرح أنطون ثم سلامة موسى وطه حسين، حتى نجيب محفوظ لم يسلم من إجرامهم. والقائمة تطول وتطول لأن طريق الاستنارة بوجه الظلام، والانفتاح بوجه الانغلاق، والتنوع والاختلاف والمغايرة، محفوف بالمخاطر. فطوبى للسالكين في شعابها!، إنهم رسل المحبة وحماة الثقافة، تهون عليهم نفوسهم من أجل كلمة الحق في وجه الباطل، والأصالة في وجه الزيف، والتقدم في وجه النكوص، والعودة إلى عصور مضت لا يمكن لها أن تستعاد. فالزمن لا يسير إلى الخلف، حتى ولو تحلزن في دورانه يبقى اتجاهه إلى الأعلى.

ما نعيشه اليوم من مآسٍ وفواجع، في تراكمه وتنوع أسبابه، واختلاف أشكاله، يقودنا إلى التلاحم، ورص الصفوف، في معركة المصير الواحد. معركة الثقافة العربية الإنسانية المنفتحة على العالم، بكل غناه وتنوعه، وخصوبته. شهداء الأمس هم شهداء اليوم،والأيدي التي تجرأت على المعري وطه حسين لن تقوى اليوم على اغتيالهما، لأن أفكارهما قد أينعت في ملايين الرؤوس مساءلة للتاريخ وشكاً في كثير من معطياته، وانفتاحاً على العلم والمعرفة في العالم. فإن استطاعوا اليوم اغتيال تمثالي طه حسين والمعري، وتطاولوا على أبي الهول، وحجَّبوا أم كلثوم، فإنهم محكومون بالعجز عن اغتيال جميع محبيهم وأنصارهم وتلامذتهم على امتداد الساحة العربية، فمن المستحيل الوقوف في وجه تقدم الزمن واستحقاقات العصر.

العدد 1140 - 22/01/2025