العيش خارج مملكة الطمأنينة!

أعتقد أن ميلان كونديرا وضع يده على سؤال كبير عندما تحدث في (كتاب الضحك والنسيان) عن الماضي والمستقبل قائلاً:نصرخ أننا نريد أن نصنع مستقبلاً أفضل، ولكن هذا ليس صحيحاً. المستقبل إن هو إلا خواء لا يثير اهتمام أحد، في حين أن الماضي حافل بالحياة، ووجهه يثير الغضب، يحمل على التمرد ويجرح إلى حد نريد تدميره أو إعادة رسمه.نحن لا نريد أن نكون أسياد المستقبل إلا لنتمكن من تغيير الماضي.

ونحن إذا صدقنا كلام كونديرا فعلينا والحال كذلك أن نعترف بضعفنا، لأننا نخاف المستقبل، وبالتالي لا نملكه مثلما نملك الماضي. ووقوعنا تحت سلطة الخوف يعني أنه استطاع أن يفضح هشاشتنا ويتركنا على قارعة الطريق تائهين ومجردين من الأسلحة.

أما نبع مصدر الخوف فهو على قول كونديرا كامن في المستقبل، كما يقول في (رواية البطء)، مختبئ في غموض ما يأتي من لحظات وراء المنعطف الأول، بل وراء كل المنعطفات. لماذا؟ لأننا ببساطة لا نعرف، ولأن المعرفة موجودة  فقط في الماضي. فإذا أردنا أن ننزلق وراء صاحب هذه الحقيقة فسنوافقه حين يقول أيضاً: أن نعبر الحاضر معصوبي الأعين. وفي الأكثر قد نستطيع أن نستشعر ونسبر ما نعيشه، وفي مرحلة لاحقة فقط تزال الغشاوة عن عيوننا ونعاين الماضي، نعرف ما عشناه وندرك معناه.

إذاً نحن ماضويون، ومعرفتنا كذلك في معنى من المعاني. أي إننا إذ نعبر هذا الحاضر فإننا لا نعيش بمعنى لا نعرف إلا بعضه. في حين أننا نعرف معرفتنا الغنية والكاملة من ماضينا الذي كان أيضاً مستقبلاً  في يوم من الأيام. و هذا ما يؤكده باولو كويلهو  في رائعته (بريدا) حيث يكشف، إلى جانب استشعاره الدقيق لروح الشرق، أن العبور  إلى المستقبل لا يمكن دون الخوض طويلاً في الماضي. فبريدا الصبية الراغبة في تعلم السحر والوصول إلى مرتبة (العرافة)، بريدا القادمة من قرية صغيرة، وجاءت إلى دبلن لتكتشف العالم، حيث كانت خطتها أن تسجَّل طالبة جامعية في كلية (ترينيتي)، وأن تصبح في النهاية بروفسورة في الأدب. إلا أن ما كان يرسله لها والدها من المال لم يكن يكفي، فاختارت العمل في شركة  تجارية. لذا كان لابد لها ­ كما نصحتها العرافة (ويكا) بعد أن علمتها لغز ورق التاروت ­ أن تبحر في الماضي وتعيشه جيداً، وفيه تكتشف موهبتها. ذلك طبعاً لم يكن ليتم دون الدعوة إلى عيش الحاضر والإحساس بالحب والبحث عنه. فكل شيء في الكون له حياة، ويلزم المرء دوماً البقاء على تماس مع تلك الحياة (فهي أي الحياة وبحسب كويلو تفهم لغتنا، وحينئذ يبدأ العالم باتخاذ معنى مختلف بالنسبة إلينا).

هكذا كان على بريدا الإبحار إلى الماضي، إلى فرنسا في نهاية القرن الثاني عشر، حيث  حب لوني وتالبو الذي كان ينتمي إلى الكاثاريون وهم عبارة عن قساوسة آمنوا بإعادة التجسيد وبوجود الخير المطلق والشر المطلق، حيث  العالم وقتذاك قُسِمَ إلى المختار والضائع، الأمر الذي عنى أن لا طائل وراء السعي لتحويل أي شخص أو تغييره إن صح التعبير.

فهل يمكن القول إن المعنى الوحيد للمستقبل هو أننا نكافح لكي نتمكن من قولبة الماضي وإعادة صوغه، لكي تبرز خصوصيتنا في (المعرفة)، ونغض الطرف عن (جهل المستقبل)؟

هذا على الأقل ما يلفت إليه  كل من ميلان كونديرا وباولو في جدلية الصراع بين إرادة التسيد على المستقبل و رغبة تغيير الماضي. وربما يكون سبب الخوف الذي لن يستطيع أحد أن يتحرر منه إلا إذا استطاع التحرر من قيد المستقبل، والحال كذلك: هل نستطيع أن نتحرر من المستقبل؟ وهل نستطيع أن نكون (ماضويين) ونعيش في الحاضر فقط دون أن نفكر في المستقبل؟ إذا نحن نعيش في مملكة الخوف لا مملكة الطمأنينة، لأننا حقيقة مستقبليون، أو بالأحرى تواقون للمستقبل، وحالنا حال بريدا (كويلو)، ذلك أننا ربما نعرف الماضي ونجهل المستقبل.

وهنا علينا أن نعترف أن الشعراء وحدهم، ومعهم القديسون والمؤمنون، يمكنهم أن يقدموا معادلة أخرى ويخرجوا بالرؤيا  وحدهم من يقدر على كسر الخوف  من المستقبل. فهم كهنته وعارفوه يعرُّونه بضربة نرد، ويرفعون العصابة عن معناه قبل أن يصير حاضراً وماضياً. بالطبع هم لا يعرفون الحقيقة العقلية والواقعية والديالكتيكية، بل يعرفون شيئاً يوازيها في الرؤيا، وقد يكون أغنى من تلك الحقيقة دون أن ينوب عنها.وهم إذ يغوصون في الماضي فذلك لا يعني أنهم هروبيون أو متخاذلون. فهم ينظرون إلى المستقبل بعينَيْ صقر، ويستولون على نبع الخوف. وهم إذ يركبون هذا الخطر فلكي يعيثوا فساداً في الخوف من شأنه أن يهدئ الروع ويسكن رعشته.

بمثل هذه المعرفة الافتراضية والتخيلية يستطيع الشعراء أن يتحرروا من خوف المستقبل، لأنهم يعيدون خلط الأزمنة وترتيب الينابيع بالإلهام والرؤيا. وهم يمنحوننا بذلك هدية التحرر من الخوف. لأجل هذا هم أصدقاء الماضي والمستقبل وضحاياهما أيضاً. وفي هذا المعنى هم يهدمون الجدار المسدود ليروا. وإذا كان الخلق هو فن أن تتنبأ بالماضي، كما قال (جان كايرول)، فأعتقد أن هذا الكلام  لا يكون أكثر شمولية إلا حين يكون (الخلق أيضاً فن التنبؤ بالمستقبل).

العدد 1140 - 22/01/2025