متى يهاجر العرفان الصوفي… وإلى أين؟

حين صلب الإنسان على جداري الزمان والمكان، بدأ صخب الدم واللحم في تسطير حكايا المهاجرين في الزمن، مستبطناً خطواتهم المتعثرة بحثاً عن الخلاص. فتمددت الحقيقة بين طيات الأساطير ولبوس الخرافات، وغدت تجلياتها رهينة تراكم فردي يحرك الأسئلة نحو خواتمها، ويقلص مساحة التذبذب بين إنعاش الرؤية المخزونة وجبرية النسيان النسبية. أما مكانياً فاقترنت الجبال بالإرث الميتافيزيقي الحاضن لتاريخ المهمشين، والمنارات التي تبث أشواق توقهم للتحرر من صبوات الجحيم وظلماته.  

تتكئ الكاتبة السورية حسيبة عبد الرحمن في روايتها (تجليات جدي الشيخ المهاجر) على الإرث الصوفي لمداعبة لاهوتية الزمن الأزلية، وتتخذ من انغلاق عالم الجبال على أسرارها حجة تسوغ تسميته (البقعة المقدسة) التي أوجدها الله، واختارها لتؤوي وتحمي المظلومين والفقراء. وتستطيل في خيالاتها لتجعل الجبل رواية الضعفاء المنكسرين الذين هزهم الشوق لبطولة تنسيهم ضعفهم وهزيمتهم. فنبشوا الأساطير القديمة، وألبسوها أسماء متعددة، لتصبح مع الأيام تاريخهم. وبذلك تفسح المجال لتعدد الاحتمالات وحالات القنص الأدبي من استعارات المكان وأبعاده في تصريفات الزمان الميتافيزيقي. فتستقر الحكاية وسط تداعيات الهرطقة وتهديدات الغزاة، وتترسخ مع هزء الأغيار وامتهانهم الدائم للكرامة الإنسانية، ليوسم الجبل شاهداً على عنفوان الحياة وقدرتها على التجدد والتجديد.

تُفتتح الراوية بالشيخ التقي إبراهيم وتفاصيل رحلته الدينية بحثاً عن سر العرفان، الذي يغسل ظلمة الروح ويحولها إلى نور. وتستعاد معها ذاكرة الاضطهاد المعرفي المترافقة مع ثقافة الذبح والقتل والتنكيل، ضمن صور تعكس تاريخ الإلغاء القائم على التكفير والتشريد وحجب اللغة العربية وأسرارها المضيئة، سواء أكان الغازي/القاتل من المماليك أم من المغول أم حتى من العثمانيين المترصدين وراء كل الأبواب! بالمقابل ينتصب الجبل سداً يحمي المقهورين بأعرافهم وعرفانهم، مما يعني أن أول المعرفة هي معرفة ذاته، شخصه، روحه، أعماره، أجياله المتراكمة فوق الجبال.. رحلة دشنها التطهر الكامل أياماً وشهوراً فضيلة استعداد لتلقي الإشراق الروحاني، وتداخلت فيها أحلام قديمة مبهمة بالرؤية، فلاح التجلي الأول في الكتابات النورانية حين انحلت الطلاسم واستعادت الذاكرة تألقها.

يتواجه الشيخ مع أثوابه السابقة بحيادية تامة، تثبت له الحجة والبرهان عند أقرانه من المجالين، وتتحقق له المعجزة فيتكلل بالنور… لكن وصوله إلى قرية البيك إسماعيل ورؤيته لابنته الجميلة زينة جعل الرؤى تختلط بالأفكار والرغبات. ومع ذلك يتابع طريقه نحو التجلي الثاني الذي يكتمل بإغلاق الدوائر السبع وأدوارها بعد تمعن في بواطن الأمور وعلاقتها بظواهرها، لإدراك ماهية الصورة والأبواب، وكيف نسخت الأسماء بأحرفها منذ قدم الدهر، من النور والايمان، من النور والنار، من الليل والنهار.  ليستقر الليل وجهاً آخر للنهار، فسحة للرؤى والمعرفة والعرفان!

تدور أحداث الرواية إبان قمع العثمانيين، الذين شقوا الدين إلى اتجاهين: نور وظلمة. وتتصل بالحاضر من خلال الحفيد/الطالب الجامعي الذي يتلقى إشعاعات التجلي من روح جده الشيخ المهاجر إبراهيم، لأن الحقيقة هي روح مهاجرة. ويعكس تساؤل الشيخ: (أعشت أزماناً وحيوات كثيرة؟ أهذا وجهي أو وجه وجوه لآخرين؟) سيرورة التواصل المعرفي بين المتكافئين المستعدين. فبينما يتلقى إبراهيم التجلي الثالث تتجمع داخل الحفيد ديانات العالم، في إشارة إلى انتقال الذاكرة من واحد إلى واحد. فالله جل جلاله يرسل الأنبياء والرسل، يكذبهم قومهم، وقلة قليلة تصدقهم، والحكاية تعاد وتعاد… أقوام مؤمنون، أضداد مشركون، ولكل ضده. وكل نفس مؤمنة تجاورها نفس خبيثة…وحين يكتمل التجلي الرابع يكون الشيخ قد غرق في العالم الحسي عبر الشغف والحب، فتنحسر تجليات الروح وإشراقات النفس، وتخبو تجليات الأزمنة المختلفة، وتهرب صور أجياله، وترمى في موقع من الذاكرة الثاوية، لتستقر في قلب الحفيد المذهول المحاصر بالتشكيك.

 تزوج الشيخ المهاجر زينة، وولج حياة يومية حافلة بالأكل والشرب وتعليم الصغار ومعالجة المرضى… ومضت سنواته كشتاءات ثلجية لرجل وحيد متقوقع على ذاته وفي ذاته.. روح طاهرة نخرها الصقيع، تنتظر بزوغ النور الصغير، لتنير دنياه، وتزينها بوجه طفل يحمل اسمه، ذاكرته، يرثه…أما إغراق الروح بالتجليات النورانية فتحوَّل إلى غرق في سماع أحلام الناس التي لا تلبث أن تُضحي أحلام لياليه مع تفاسيره.. وحين يهرب لرؤية صديقه يلحظ  وجود بيت مسحور في قرية العجائب، فتأخذه حالة استغراق من نوع جديد، تدفعه للإشفاق على أهالي القرى الغارقين في البؤس والشقاء، الذي طبعهم بالقسوة والحنان والسخرية، وتوقُّد الذكاء، والفطرة الحسنة والطيبة رغم فقرهم.

تتحول عناوين الفصول من التجلي إلى المشاهد، وتدخل الرواية مرحلة الدراما العاطفية، من خلال الشابة بديعة، واقتيادها بوحشية إلى وسط الساحة لإذلالها، واجتياحها لروح إبراهيم ونفسه، وتخليه عن التحفظ المعهود، وتهديده لقائد الدرك بدفع المنطقة نحو العصيان، وإعلانه أن المرأة زوجته. ومع بديعة نتعرف على أوجه الظلم المجتمعي العثماني الذي بنى للفقراء المنتهكين ذاكرة ذليلة، ظلم شحن المكان والروح والجسد بظلمة مقيتة، يمكن معادلتها بحياة الخوف والوجل.

تتوزع بقية المشاهد على تفاصيل حكاية الحب الجميلة بين إبراهيم وبديعة، التي تستدرج الشيخ المهاجر نحو تحديات دنيوية مختلفة، قوامها الدفاع عن الحب وقلق الهجر وتوق الوصال وسط النفور من طبائع زينة الفاسدة والعجز عن مجابهتها بحسم الرجال المعهود. وهذا التردد يضع الرواية ضمن نهاية مفتوحة على التخبط والضياع. مع الإيحاء بالاستمرارية من خلال تسمية وليد بديعة المظلومة الصابرة بالمهاجر، ثم دفع الحظوة الصوفية نحو الحفيد، الذي يذكي صيت جده المهاجر، الذي عرف الله حق المعرفة، وسخر من الجهالة والنار التي تنتظرهم. وتلك النار ما هي إلا ظلام عدم التوصل إلى معرفة الله.

جمعت حسيبة عبد الرحمن في روايتها بين شفاهية النص الشعبي، ودهاليز الحكاية الشهرزادية.. أما آفاق المدد العرفاني فوسمت الجبل ضوءاً شارداً ينير ظلمات التوحش التكفيري.

العدد 1140 - 22/01/2025