لماذا تهرب النمور؟!

كان يا ما كان، كانت هناك غابة خضراء يعيش فيها نمر قويّ وطيب القلب – يعني بالعربي الفصيح غشيم قليلاً – وفي أحد الأيام مرض هذا النمر، وفكر باستشارة الأطباء، لكن صديقه الثعلب حذّره من ذلك، وعرض عليه أن يعالجه بنفسه، وافق النمر، وهنا اشترط الثعلب عليه أن يقيّده ليباشر في العلاج، وفعلاً قيّده بالحبال جيداً، وحين تأكد من متانة قيوده، راح يراقبه وهو يبتسم هازئاً، النمر الغشيم ما زال ينتظر العلاج: هيا يا صديقي ماذا بعد؟ هنا ضحك الثعلب ومضى يهز ذيله مختالاً بالذكاء الذي تفوق به على القوة، بينما قبع النمر يمضغ المقلب الذي أكله، وهو يئن ويغني:  دول مش حبايب..، فسمعته الفأرة، وعرضت عليه المساعدة، وفعلاً راحت تقضم الحبل بأسنانها الحادة حتى تحرِّر النمر. في صباح اليوم التالي شوهد النمر ماشياً، على ظهره بقجته، وفي جيبه (الموبايل)، ترك كل شيء وراءه عازماً على الهجرة دون أسف، وفي (محطة الحجاز) سأله البعض قبل أن يركب القطار عن سبب سفره المفاجئ، فقال: إن البلد الذي فيه  الثعالب (تربط) والفئران (تحل) هو بلد لا يمكن العيش فيه…

هذه الحكاية لم أسمعها من جدتي ولا قرأتها في كتب الحكايا، وإنما هي الواقع الذي لم يعد خافياً حتى على  (الغشيم)،  ادخل إلى دائرة حكومية، قد تعثر فيها على زميل من زملاء المدرسة، أنت تعرف أن هذا الزميل كان يتوق منذ ذاك الزمن الى أن يلعب دور (عريف الصف) لكن لم يحقق حلمه لأنه كان كسولاً ودائم الغش في الامتحانات، تقف أمام مكتبه وتنتظر، تراه يقول للرجل الواقف  أمامك: تكرم عيونك وتحت أمرك، وسلملي عالمدام، ثم يأتي دورك لتوقع معاملتك التافهة جداً، فتفاجئ به يخاطبك: صدقني لا أستطيع ذلك، وحياة شبابي، لو قام والدي الآن من قبره وطلب مني نفس طلبك لما استطعت خدمته… ثم يتابع شفط المتة من الكأس الكبيرة أمامه،عند ذاك يأتي دور الفأر الذي تراه أمامك فجأة، دون أن تعرف من أي جحر خرج، يهمس لك أنه الوحيد القادر على حل موضوعك، وتفهم أن له دور خطير أكبر من حجمه الظاهري بكثير، بعدها تسير معاملتك مثل السحر.

هذا هو نموذج (ثعلب المؤسسات) إنه المخلوق الذي إذا وضعته في الصفوف الخلفية بالصف تراه يكتفي بالثرثرة، أو يغط في النوم الذي هو شبيه بالعبادة، ثم ينهض ليقفز هارباً من فوق الأسوار، و فوق ذلك  يحسد زميلاته على إجازات الأمومة، وينكد عليهن ساعة الإرضاع، وأعظم نشاطاته يتجلى في ساحات (الفول والفتة) إذ أن له فيها مآثر بطولية تفوح منها رائحة البصل والثوم.  أما إذا تدخلت العناية الإلهية والأرضية، وتسنّت له فرصة الجلوس في المقعد الأمامي، فسرعان ما يصدق أن ذلك يعود الى عبقريته الفذة،ويبدأ أول ما يبدأ بحملة على زملاء الفول والفتة،وينهض كل صباح  وقبل أن يغسل وجهه، يفكر ب (فرمان) جديد يريد أن يصدم به موظفيه ليثبت قوته ووجوده، ويعمد إلى التركيز على (الأخطاء الصغيرة) ليغطي بها (الخطايا الكبيرة)، وبعد أن يوطّد علاقاته العامة والخاصة، ويطعم من فوقه ومن حوله من (طيبات ما رزقناكم) يشعر أن حلمه القديم قد تحقق:  إنه الآن عريف الصف،  عندها يمسك الورقة والقلم، وينهض ماشياً يهتز يمنة ويسرة مثل جمل ضخم يحمل على ظهره هودجاً ثقيلاً، ويبدأ بكتابة أسماء رفاقه المشاغبين لتبييض وجهه أمام المعلم. وإذا ما أجريت انتخابات نقابية، يدخلها واثق الخطوة، ويخرج منها ملكاً.

أما (فأر المؤسسات) فهو ظاهرة تكاد تكون لازمة وضرورية مثل ضرورة وجود البكتريا في الطبيعة، إنه قادر على التسلل الى كل زاوية، يمكن أن يعبث بكل شيء ويقضم ما يريد من وثائق ومستندات، إذا أحس بوجود قط، فإنه ينكمش ويخفي نفسه، أما حين تغيب القطط، فيتعملق وتطول أظفاره، حتى يصبح خطراً يهدد الثعلب أيضاً.

وبعد هذا تسألون: لماذا  تطفش النمور من البلد؟

العدد 1140 - 22/01/2025