«يا مريم» لسنان أنطون تروي حكاية الوجع العراقي بلغة معمّدة بالحب

صدرت مؤخرًا عن (منشورات الجمل) للكاتب والشاعر العراقي سنان أنطون، المقيم في نيويورك، رواية تحت عنوان (يا مريم)  في (؟159 صفحة). وقد اختيرت ضمن القائمة القصيرة ل (جائزة بوكر للرواية العربية)، لتسجل بذلك أنها أول عمل روائي عراقي يشارك في هذه الجائزة.

(يا مريم) أشبه بفيلم تسجيلي يوثّق بحيادية أوجاع بلاد الرافدين ومآسيها، بعد دخول قوات الاحتلال الأمريكي إلى العراق. وهي العمل الروائي الثالث ل (أنطون). وفي جديده يعرِّي الكاتب مجتمع ما بعد الحرب في العراق، والانقسامات التي أفرزتها، والتطرف والإرهاب الذي يودي بكل شيء جميل.

كما يرصد صاحب يا (إعجام) في روايته هذه، القدر المأسوي لعائلة عراقية مسيحية بسبب الحروب والعنف الطائفي. متطرقًا إلى الأسئلة الشائكة التي تعانيها الأقليات في العراق الراهن، ليروي لنا عبر سيرة (يوسف) – (الذي يرفض الهجرة وترك البيت الذي بناه) – كما عبر سيرة (مها) – (التي وجدت نفسها مهاجرة داخل بلدها والتي تنتظر أوراقها كي تغادر العراق نهائيًا) – بعض آلام الشعب العراقي، وما يثيره ذلك من أسئلة حول الماضي والحاضر، أي ما بين الذاكرة والراهن.

تدور الرواية زمنيًا في رحاب يوم واحد يتنفس بأصداء حادثة تفجير كنيسة (سيدة النجاة) في بغداد، وترصد كيفية تحوُّل البيت العراقي الكلداني إلى متحف، يتجول فيه الغرباء كأدلاء، بينما صاحب البيت أعزل في مواجهة الاجتياح. ويثير العمل مواجع عراقية بالجملة، فثمة ماضٍ هادئ مشتبك بحاضر مفخخ بالطائفية، وبين رحى الزمانين بطل عتيق طيب، يحلم بحياة بلا صخب، وجنازة صغيرة، بعدما تفرق الأحبة والأهل في أصقاع الأرض، وبقي هو في بلده متمسكًا بخيار البقاء الصعب، غير أنه يُقتَل في تفجير إرهابي لإحدى الكنائس، كأن الأمل الباقي يجهز عليه في النهاية من قبل أعداء الحياة والجمال والتسامح.

 

محاكاة الذاكرة والواقع..

يستمد الكاتب المتخيل الروائي من الواقع الذي يتمثّل في تفجير الكنائس، لكنه ينحت شخصيات الرواية بطريقة أقرب إلى الحقيقة. (يوسف) و(مها) مثالان على الآلام الفردية التي يحملها كل منهما، فدرب الجلجلة يبدأ من الاحتلال ويمرّ بالطائفية ليصل إلى التشرد المستمر.

هكذا، يسيطر على عوالم الرواية شخصيتان من زمانين مختلفين ((يوسف كوركيس) رجل ثمانيني عايش أحداثًا عصيبة في بلاده، و(مها) الشابة العشرينية التي فقدت أملها (جنينها) الذي لم ير النور، واقتطع منها إثر تفجير إرهابي هزّ أرجاء شارع غالبية ساكنيه من المسيحيين).

وحين يتحاور جيلان عراقيان تبدو المحاكمة بين الذاكرة والواقع، إذ يستند (يوسف) في الرواية إلى ذاكرته ليحشد كل المبررات عن عراق جميل لا حرب طوائف فيه، وبه حب وتآلف وأشخاص طيبون وحضارة بعمر نخيله العالي منذ بابل حتى الآن.

أما (مها) بنت المأساة، التي ولدت في ملجأ أثناء حرب الخليج الثانية، وشردت أسرتها في (حرب المليشيات) وفقدت خالها لأنه مسيحي، وطفلها في غارة (جهادية)! وتعيش لاجئة في بيت (يوسف)، وقد نجت من الموت بأعجوبة في تفجير كنيسة عراقية، فلا ترى في المكان إلا محطة للهجرة من جحيمه القاسي.

ويمثل (يوسف) رمزًا للعراقي المتشبث بوطنه، فلا يرى في ما يجري فيه من حرب طائفية أكثر من غمامة ستزول، وأن الأمر ليس (حرب طوائف) بقدر ما هو صراع ساسة. وفي ذاكرة الرجل ما يعينه على البقاء في زمن يعايشه، مستندًا إلى رؤى الماضي، لكنه إذ يفعل ذلك يقضي مذبوحًا ليجد راحته الأبدية (ذبيحة إلهية) قريبة من (مريم).

الرواية تبدأ بمحاججة بين الذاكرة والنسيان، وتنتهي على (يوسف) المفتون بالنخيل، والرافض لمغادرة العراق مذبوحًا في الكنيسة، وما بينهما الحكاية العراقية في فصلها الدامي والحزين، حيث يقود الروائي شخوصه بعناية، وبلغة حيادية، هي أداته الطيعة يقتصد فيها حين يريد، ويبذخ فيها متى أراد للحكاية أن تتوهج.

 

لعنة رسل الموت ..

يفرد الكاتب الحيّز الأكبر من روايته ل(يوسف)، فيما تتمكن أحداث الرواية من الخروج من الفضاء (بغداد 2010م) والزمان (يوم القداس)، لتقفز برشاقة بين الأزمنة والأمكنة على طريقة (الفلاش باك). يعود يوسف إلى ماضيه وينبش فيه. نكون أمام ألبوم صور يقدم أفراد العائلة الآخرين، فيتحسر على من رحلوا إلى أماكن أخرى، وتوزعوا عبر العالم، ولم يعد يربطهم به إلا اتصالات هاتفية ورسائل إلكترونية.

ورغم تناول العمل لموضوع متفجر، إلا أن صاحب يا (وحدها شجرة الرمان) لا يخل بالشرط الفني ولا يقع في الوعظ والثرثرة.

لا بل إن براعة الرواية في أنها غير صاخبة أو جهيرة الصوت، مع أن المأساة تدفع إلى الصراخ. فقد اعتمد مؤلفها على سلاحَيْن مؤثرين: علاقات إنسانية مدهشة بين الأشخاص والأماكن والأشياء، وبين البشر فيما بينهم، وإسقاط على الارتباط الواضح بين معاناة (مريم) و(يسوع) الجسدية والروحية، ومعاناة (يوسف) و(مها) الجسدية والروحية، وكأن طريق الآلام يمتد من القدس إلى بغداد.

(يا مريم) رواية عراقية بامتياز بهذا الوعي بالتاريخ والبشر، وبتلك الغلالة الرقيقة من الحزن والأفراح غير المكتملة، وهي أيضًا رواية عن الإنسان المغترب في كل زمان ومكان، عن رسل الموت في مقابل عشاق الحياة، عن لعنة الألم والشر التي يبدو كمجنون أعمى لا يفرق بين (يوسف) و(مها)، و(مريم) و(يسوع).

ومما يميز الرواية لغتها الجميلة والسلسة، التي تتلمس الآلام بشفافية من دون أن تنكأها. ولعل ما زاد اللغة عذوبة هو تطعيمها باللهجة العراقية، وبالوجع العراقي الذي يجتاح شخوصها الذين نكاد نشعر بأنفاسهم ونبضهم على الورق.

وقد أستطاع الروائي سنان أنطون أن يعيد (فدائية) المسيح (عليه السلام) الذي جعل بطل الرواية، ليس واقعيًا فقط وإنما بطلاً روحيًا، واستبدله بتضحيات المسيح (عليه السلام) لأجل آخر، وهو أن يهدى كل شيء وينتهي في العراق حتى من خلال موت البطل الذي أبدى تضحيته بالموت من أجل أن يستقر العراق.

 

أنطون في سطور .. شاعر وروائي ومترجم

سنان أنطون، شاعر، وروائي، ومترجم عراقي، ولد في العاصمة بغداد عام 1967م، له إلى جانب (يا مريم) روايتا (إعجام)، و(وحدها شجرة الرمان)، وديوان شعر بعنوان (ليل وحيد في كل المدن)، والعديد من المقالات بالعربية والإنجليزية. ترجمت كتاباته إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والنرويجية والبرتغالية.

عاد إلى العراق عام 2003م بعدما تركها سنوات طويلة ليشارك في إخراج فيلم وثائقي بعنوان (حول بغداد) عن العراق بعد الديكتاتورية والاحتلال. ترجم أشعار محمود درويش وسركون بولس وغيرهما من كبار الشعراء العرب المعاصرين إلى الإنجليزية. نشرت ترجمته لكتاب (في حضرة الغياب) لمحمود درويش بالإنجليزية عام 2011م  عن دار (أرشيبيلاغو). ويعمل سنان أنطون أستاذًا للأدب العربي في جامعة (نيويورك) منذ عام 2005م، كما ورد في التعريف به في رواية (يا مريم).

العدد 1140 - 22/01/2025