وجدانيات مضطربة
أسئلة نفد حبرها ولم يعد للقلم ذاكرة تحتوي هذه الأوجاع.. ولم يعد للورق مكان على الطاولة.. وأسئلة عن الفرح، كيف يموت أو يرحل من القلوب وكيف يبدَّد هذا الكنز؟ وسؤال آخر: كيف يموت الفرح ويظل الحزن واقفاً له بالمرصاد يبحث عن الورثة الذين ما زالوا يحتلون بوابات قلوب الفقراء؟
كانت الأزمة السورية من أصعب الامتحانات ليس للسوريين فقط، بل لمئات الملايين في المنطقة والعالم.. ولم يجب أحد عن كثير من هذه الأسئلة الإجبارية والاختيارية إجابة وافية حتى هذا اليوم..!
عيون النساء الحزانى والأرامل والثكالى، وكلّ من فقدت فلذة من كبدها أو نبضة من فؤادها، وهبّت عليها نسائم الحزن ورياح الألم، غطّى السواد بياضها.. إلى هؤلاء الصابرات الجبَّارات الحنونات ألف تحية وابتسامة ورفع القبعات والانحناء وتقبيل هذه الجباه المرفوعة المندَّاة بالتضحية، المدافعات عن الوطن في زمن الوجع والطموحات المشروعة والأحلام القلقة التي فقدت رصيدها بارتفاع الدولار، والبحث عن لغة جديدة للعيش بكرامة ورغيف ساخن مدفوع الثمن من عرق الجبين وتعب السواعد التي لن تقبل الذل، رغم أن هؤلاء الأبرار يفترشون الأرصفة وينتظرون من يرفع يده بإشارة لتفريغ شاحنة رمل أو نقل عفش بيت من المناطق الساخنة إلى المناطق الأقل حرارة أو المناطق الباردة.
في زمن رتق الثياب (تضييقها أو توسيعها)، وترقيع الأحذية البالية انتعش الخياطون والحذَّاؤون، ولم تغب الضحكات المورّدة عن ثغورهم.. وهناك من ترك بعض الأمل يتفيّأ تحت ظلّ شجرة لم يغتصبها الإرهابيون بعد ليغذوا بها فرَّاماتهم الجائعة. وكثيرون لم يفرّطوا بالأمل ويبدو أنهم أكثر حرصاً على الاحتفاظ ببقايا أحلام ما تزال تختبئ في قلوبهم، وتقبع تحت صدورهم بحراسة نبضاتهم ودفء أنفاسهم..! أحلام تنام على وسائد من حرير وعلى أرض ذاكرة مروية من التراث الأصيل، الجميل، ومن حصاد السنين، وتعب العمر وعرق الجبين، لكنَّ أنسجتها تمزَّقت بعد أربعة أعوام من عسر الهضم والتفكير واستعصاء النبوءات التي فجَّرها الولاة القادمون من أطراف الدنيا، ممن يدَّعون معرفة ما هو آتٍ من حالات السقوط والشموخ، قبل عقود ولم تَصْدق نبوءة واحدة من أقوال المنجمين والكذبة والعرَّافين..!
سؤال لأمٍ تنتظر ابنها على باب الدار بترقّب وحذر وشوق، ولا يهمها من أية جبهة هو قادم من الشمال أو من الوسط أو من الجنوب، بل تريد أن تتعرف عليه من جديد بعد غياب ما يزيد عن سنتين أو أكثر.. تريد أن تشمّ رائحة ثيابه وأن تلمس ذقنه بأناملها الخشنة ربما ستنزع الشعرات اللواتي صبغها الشيب، أو التي احمرَّتْ ومال لونها للشقرة في قيظ ملتهب من جراح السنين.
هل يموت الحزن بعد أن لبس السواد على موت الفرح؟ سؤال صعب ومن المبكر انتظار الإجابة عنه، لكنَّ الدموع التي تجري على خدّي امرأة مات رضيعها بشظية، يمكنها أن تميّز بين الفرح والحزن وأن تعرف مواعيد فصولهما الأربعة، وتقاليد الناس وعاداتهم في هذه المواسم المروية بقطرات الألم.. وتعرف أيضاً أن هناك فصلاً للفرح لكن لم يُحدّد بعد موعد قدومه.. ربما يأتي بعد عام أو عامين أو بعد عقد أو عقدين.. وربما لعشرات العقود..!
السؤال الأخير المحيّر في زمن اللّا زمن وفي فراغ الأمكنة يحفظ الجواب في فم القلق. وتظل الخيبة معلَّقة في سقف الذاكرة، أما السؤال فهو: هل يقول العاشق في زمن العري والقحط لحبيبته: متى تفتحين يا حبيبتي نافذة ذاكرتك لأحلامي وتشفقين عليَّ.. ألا تعلمين أنني حارس أمين أقف منذ سنين على باب فؤادك فاسمحي لي بالدخول ضيفاً لوقت قصير لأقدّم لك وردة في عيد ميلادك ثم أرحل.. ولا أحمل إلاَّ بعض عطر وابتسامة وأمل؟