إنه زمن «اللدّات»!

و(اللدات) أعزك الله جمع كلمة (لد)، وهو لمبة تقترب من حجم حبة العدس تصدر ضوءاً شحيحاً، لكنه بمساعدة أشباهه المصفوفة على مسطرة أو شريط لاصق، يصبح ضوءاً ساطعاً كالجداول الصغيرة التي تصنع النهر الكبير.

وقد تعرفنا على المدعو اللد في بلدنا مع دخولنا عصر الظلمات بالتزامن مع سفر العقل والحكمة والرؤية الهادئة والمحبة مجتمعة من ديارنا دون أن تحدد موعداً للرجوع إليها، مرددة قول الراحلة نجاة: أنا لا أفكر في الرجوع إليه.

فصارت الكهرباء تزورنا بين الفينة والفينة، واضطر الناس إلى اقتناء الشواحن الصينية سريعة العطب بداية ظناً منهم أنها أزمة مؤقتة لا تلبث أن تحل وتعود الكهرباء إلى أسلاكها.

لكن هيهات، ففترات القطع زادت عن فترات النور، ولم تعد تلك الشواحن الفقيرة تفي بالغرض، فلجأنا إلى شراء البطاريات الصغيرة مع شاحن ولدات للإنارة فقط، فيما اقتنى الميسورون بطاريات كبيرة ومحولات تشغل إنارة المنزل والأجهزة الكهربائية الخفيفة من تلفاز وكومبيوتر وغيرها…

في زمن اللد أصبحت حتى النساء السوريات اللاتي تحمل قسم كبير منهن مسؤوليات الأسرة لغياب الأب إما قتلاً أو اعتقالاً أو اختطافاً أو هجرةً، أو لوجوده في ساحات الحرب المجنونة، أصبحن يميزن البطارية الفيتنامية عن الصينية، والحامي عن البارد، ويتحدثن في الأمبير والفولط و(الانفرتر) وأنواع المحولات.

في زمن اللد صارت لمبة الكاز و(اللوكس) وبقية وسائل الإنارة البدائية التي لجأ إليها السوريون في بداية الحرب موضة قديمة، بل دخلت دائرة النسيان إلا في المناطق التي لم تعد تعرف الكهرباء مطلقاً.

في زمن اللد صار أهالي حلب والمناطق الشرقية يحسدون أهل الشام والساحل، إذ تأتي الكهرباء لسويعات تكفي لشحن البطاريات والموبايلات على الأقل، فيما انتقلوا هم إلى مرحلة شراء الأمبيرات من مولدات تكاثرت كالفطر، وأصبحت استثمارا في اقتصاد الحرب تستنزف ميزانياتهم النازفة أصلاً…

في زمن اللد انتعشت تجارة البطاريات واللدات والمحولات والإنفرترات مبشرة بنهضة اقتصادية عظيمة تمتلئ معها جيوب التجار فيما جيوبنا خاوية أساساً.

في زمن اللدات صار طلاب الشهادات يتمنون انقطاع الكهرباء طويلاً حتى تفرغ البطارية ويرتاحوا هم من عبء الدراسة.

في زمن اللد صارت تقول فتاة لحبيبها الافتراضي وهي تبادله قصائد الحب والهيام: لماذا كنت مختفياً أمس وقد انتظرتك طويلاً على موعدنا؟…فيجيب الحبيب المختفي خلف شاشة موبايل أو لابتوب بعيدة: حبيبتي، لقد انقطعت الكهرباء قبل موعدها الاعتيادي وراحت الشبكة وراح قلبي ونبضي معهما.

في زمن اللد عاد الناس إلى زيارات السمر والحكايات مع كأس الشاي أو المتة بعد أن صار التلفاز حديداً بارداً لا روح فيه، حتى راجت طرفة عن شاب من الشباب الذين يمضون جلّ وقتهم على النت مع أصدقاء افتراضيين يقول: (مبارح قطعت الكهربا وقعدت مع أهلي.. والله ناس طيبين…). نعم إن لزمن اللد وانقطاع الكهرباء المزمن محاسن رغم كل بلاويه وكوارثه…فالألفة التي كادت تغيب من حياتنا تعود رويداً مكرهة لا طائعة… لكن زمن اللد زائل.. هكذا يقول صوت أمل شحيح…

ستعود الأنوار إلى شوارعنا وطرقاتنا وبيوتنا يوماً، لكن بعد أن تطوي هذه الحرب المجنونة صفحتها السوداء، بعد أن يثوب من تبقى من السوريين إلى رشدهم، ويوقنوا أن لا وطن لنا إلا هذه الأرض الجميلة، أن لا خيار لنا إلا أن نعيش معاً، ونختلف، و(نحب بعضنا) دائماً.

 

هامش: قسم من هذه المادة كتب على ضوء اللد، فكان لا بد من الإشارة.

العدد 1140 - 22/01/2025