أمي سنديانة الأمان…
أول ترنيمة للروح والذاكرة…
وأول احتضان في رحم الوفاء…
أول لمسة دفء تدثر الجسد…
وأول الحروف… والأبجديات..(ماما).
أمي يا سنديانة تتغلغل جذورها عميقاً في كياني… لتهبني الحياة والحب والإيثار..
هي ذي الأم التي تختصر الحياة بكل أبعادها ابتسامة ولمسة تهديها للكون أزهاراً تتفتح فوق براعمها نضرةً، تغدو مستقبلاً ألقاً وأجيالاً تعدها زاداً للوطن.
الأمومة غريزة تحملها الأنثى في نسغ تكوينها، وشماً أبدياً حتى لو لم تصبح أماً فعليةً.. فالأخت.. والابنة.. والزوجة هنّ أمهات لكل أفراد الأسرة، وأمهات للرجل بكل حالات صلته بهن.
والأمومة فعل تلقائي تعيشه المرأة بكل رضاً ومحبة وتفانٍ، وحتى بافتخار لا يجاريه افتخار آخر.
ألم تحرم ذاتها كل ما يمكن أن تعطيه لأولادها، وأحياناً كثيرة تغامر بحياتها إن كان في المغامرة حياةً لهم.
هل شعر أحدنا كم عانت وقاست حتى أصبحنا كباراً نعتز بشخصيتنا بما تحمله من سمات وفضائل، وكم جافاها النوم حتى حصلنا على مواقعنا العلمية والوظيفية، كم تألمت حتى شُفينا من وجع أصابنا، هل يتذكر بعضنا مدى اتساع الفرحة في عينيها وروحها لنجاحنا وتفوقنا.. ووصولنا إلى شواطئ أحلامها… وأحلامنا.
تعيش الأم دائماً في الظل، لا تأبه لحقوقها، مكتفيةً بواجبات تقدمها من غير منّة.
فمنذ اللحظات الأولى التي تحس فيها أنها ستغدو أماً تكرّس كل جهدها للوافد الجديد، وللحلم الذي يعطيها معنىً لوجودها وأنوثتها، تزرع فيه بذور القيم والأخلاق، ترفد المجتمع والوطن بأفراد يعملون على بنائه ومنعته وعزته بعيداً عن الاستهتار والعشوائية والتفريط بكرامته. فهي صانعة الأجيال والمجتمعات الإنسانية التي ما كان لها أن تتطور لولا تفاني الأمومة وعطاؤها اللامتناهي الذي يعتبره الكثيرون غير منتج…!؟ فعملها داخل البيت ومسؤوليات التربية لا تدخل في حسابات التنمية والاقتصاد الفعلي، حتى في البلدان المتطورة. إنه إنتاج غير مرئي ولا محسوس، تظهر نتائجه على المدى البعيد في حياة البشرية جمعاء.
واليوم، تضاعفت مسؤوليات الأم بخروجها للعمل محاولة ألا تبقى على هامش الحياة، غير مكتفية بحدود رسالتها التقليدية المقيّدة بحدود البيت وشؤونه، إيماناً منها بأنها شريك حقيقي في صنع حياة أسرتها ومستقبلهم، وإدراكاً لفاعليتها وإمكاناتها اللامحدودة، التي تستطيع من خلالها القيام بمهام مزدوجة، بتنظيم الوقت والاستفادة منه بشكل أفضل، وأيضاً بتربيتها لأبنائها تربية تجعل منهم أشخاصاً يشعرون بالمسؤولية تجاه أنفسهم ومستقبلهم أولاً، وتجاه الأسرة واحتياجاتها اليومية ثانياً. إذ لم تعد تلك الأم التي تربي أبناءها تربية اتكالية تقليدية، بل أضحت هي والأبناء عوناً للأب الذي بات دخله منفرداً لا يكفي سد الرمق، فكيف بباقي متطلبات الأسرة والتعليم وما شابه..في زمن اقتصاد السوق والاستهلاك والمغريات التي لا تنتهي، والتي توقع الأبناء في شركها دونما شعور.
هي الأم التي تربي أبناءها على أن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يمتلكه من مظاهر الترف والتقنيات الوافدة، وإنما من خلال وعي وثقافة وتقدير للذات، تؤهله لدخول معترك الحياة وهو متسلح بالقناعة والرضا عن تلبية الاحتياجات الأساسية دون النظر إلى ما يملكه الآخرون. وأيضاً من خلال وضع أولويات لهذه الاحتياجات، مؤمنة أن الإنسان يتمنى أن يحوز كل ما يمكن أن يجعله مرفّهاً وسعيداً. إلاّ أن تبني الأبناء فكرة الأولويات تمكننا من تلبية احتياجات الجميع بما يتناسب مع إمكانات الأسرة المادية.
إن مثل هذه الأم تهب أبناءها الفرح والثقة بالنفس وتعزز شعور الانتماء لديهم.
إنها سنديانة الأمان… ومرفأ سلام نلوذ بشطآنه لحظات الأنواء والشدائد، ومهما أخذتنا الحياة وشؤونها ستبقى هي بحر الأيام والأحلام والآمال، وسيظل رضاها فرح أيامنا وسعادتنا.