وهم الحرية وصناعة المتلقي
(1)
كانت الدراسات النقدية لأمد ليس بالبعيد تولي الكاتب أهمية كبيرة، أثناء عملية الدراسة الأدبية، ثم تراجع دور الكاتب بوصفه منتجاً مباشراً للأثر الأدبي، ليبرز دور النص، مما مهد في تاريخ النقد لمقولة (موت المؤلف)، بمعنى أن الكاتب ليس له علاقة بتحديد دلالة الأثر الذي يكتبه. فالدلالة أصبحت محصورة في النص نفسه، وبذلك حلت قصدية النص مكان قصدية المؤلف.
ثم برز دور المتلقي مع أحدث النظريات النقدية (نظرية التلقي). وبشكل مبسط تقول هذه النظرية في أحد أهم أسسها:
موت المؤلف كمرجعية أحادية ثابتة، شرط ضروري لولادة القارئ المتنوع والمتغير، وعليه فإن دلالة النص يحددها القراء، وبالتالي فثمة قراءات لا نهائية للنصوص، تتناسب دلالتها طرداً مع عدد القراء على اختلاف العصور ومر الأزمان. خطورة هذه الآراء تقود بالنتيجة إلى ما يسمى لا نهائية الدلالة، وهذا يعني فيما يعنيه ضياع النص، ووقوعه في المتاهة.
مما لاشك فيه أن المؤلف لا يحدد وحده دلالة نصه، والنص نفسه لا يمكن إغلاق دلالته على مكوناته وحدها، لأن الدلالة تفاعلٌ خلاق منفتح على المتلقين، والعملية تواصل وتفاصل. يبدأ تأثير النص عندما ينتهي الكاتب منه، ثم يتراجع النص عندما يأتي إليه متلقون مختلفو المستويات. وتتعدد قراءاته بتنوع مرجعيات المتلقين، وهذا ما يمكن أن نسميه (حوار القصديات). فقصدية المؤلف مضافاً إليها قصدية النص ثم ما يستخلصه القارئ، وهو حصيلة تضافر وتكامل وتفاعل القصديات. (الانفتاح الدلالي للنص).
إذا كان وجود الكاتب وكينونته التاريخية حالة موضوعية يمكن الإحاطة بها بشكل عام، والنص يمكن مقاربته في الدراسات النقدية بموضوعية لا تخلو من ذاتية الدارس، فإن المتلقي ككيان وكشخصية اجتماعية ثقافية تصعب الإحاطة بها، نظراً للتعدد والاختلاف في التكوين التاريخي والثقافي والاجتماعي لجمهرة المتلقين.
(2)
من هنا يمكن الحديث عن الكيفيات الممنهجة في صناعة المتلقين، لا على الصعيد الأدبي فقط، وإنما على المستويين الفكري والسياسي أيضاً. بمعنى آخر كيف يمكن تشكيل الأرضية لاستقبال الرسائل والتوجهات التي يراد إيصالها إلى المتلقين مع الحرص الشديد على شعورهم بأنهم أحرار في خياراتهم، بعيداً عن أية سلطة تحاول أن تفرض عليهم أفكاراً أو آراء محددة لا تكون ذواتهم الاجتماعية مصدراً لإنتاجها.
بفعل تطور الاتصالات وسرعتها، واختراقها لكل المحظورات، مهما كانت صلابة هذه المحظورات وكثافتها النوعية، فقد بات من شبه المستحيل في عالم اليوم فرض حالة من الانعزال عن طريق الانغلاق، ومواجهة حالة اقتحام الفضاءات المفتوحة التي تشكل أفكار الناس، وتحدد ذائقتهم.
تعددت الآراء وتنوعت الأفكار واغتنت التجارب، وأصبح إنسان اليوم يتوهم أنه يسبح في محيط لا تحده أسيجة، ولا تقف في وجهه حواجز. والحقيقة أن هذه الحرية ليست أكثر من وهم جميل، لأننا لسنا أحراراً فيما نختار من معارف، وبالتالي فأحكامنا وخياراتنا محكومة بكمٍّ ونوعٍ من الحزم المعرفية التي تبثها إلينا مصادر متخصصة ومعاهد عريقة في كيفيات صناعة المتلقين، وجعلهم تربة خصبة تعيد إنبات البذور، التي تزرع فيها. والثمر كما هو معروف يُحدَّد بنوع بذوره وبالمناخات التي تحيط بعملية الإنبات.
تقوم الدراسات الحديثة على إعادة تشكيل التربة بتفكيك مادتها الأولية، مما يجعلها أكثر صلاحية وملاءمة للبذار المصنع خصيصاً لها، وبذلك يُهيّأ لنا أن عملية التفكير واتخاذ المواقف ليست أكثر من اختيار حر، وحقيقة الأمر أننا لا نقرر ما نريده أو ما نطمح إليه، وإنما نتوصل إلى النتائج التي يريدونها لنا. نحن مشبعون بوهم الحرية، في الوقت الذي تتحدد حريتنا في خيارات لا يمكن الوصول إلى غيرها، لأن التربة قد مهدت لذلك، والذائقة قد تشكلت بحيث تستقبل المرسلات التي لا تتعارض مع طبيعة التوجهات العامة التي يراد إبلاغها.
صناعة المتلقي من أعقد الصناعات، فهي لا تحتاج إلى تقنية عالية فقط، وإنما تعتمد على دراسات نفسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية، تتصف بالعمومية، ولكنها تجد تعيينها المحدد بخصوصيتها المميزة لكل شعب، أو منطقة، أو فئة، وذلك حسب التوجه والقصد.
يتعاظم دور صناعة المتلقي في الأزمات العامة، وتتسارع وتائر عمليات التسويق مع تفاقم المشاكل وتزايد تشابكها وتعقيدها، فتتبارى وسائل الإعلام بكل أشكالها، في عمليات احتلال ذهن المتلقين بعد تضليلهم الإعلامي المتقن والمبرمج، ليصبح أفق التلقي ممهداً لاستقبال أباطيلهم، ونصبح (أحراراً) في الاقتناع بها وتداولها.