مقاربة لمسرحيته (تيل أولين شبيغل) مسرح غورين الساخر ومواجهة الاستبداد بالفن
إن مسرحيات غريغوري غورين (1940- 2000) ولوحاته الساخرة أعادت الحياة إلى مسارح المدن الروسية الكبرى، وخاصة موسكو ولينينغراد. وكان المبدع غورين قد بدأ حياته طبيباً في قسم الإسعاف بأحد مستشفيات العاصمة، قبل أن ينتقل إلى كتابة اللوحات الناقدة في الإذاعة والتلفزيون والمسرح.
وقد عمل غورين في حقلَيْ المسرح والسينما، وألف عشر مسرحيات لقيت رواجاً وإقبالاً على مسارح الاتحاد السوفييتي السابق وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا وهولندا والنمسا وبلغاريا والولايات المتحدة الأمريكية.
ومن أبرز مسرحياته التي ترجمت إلى اللغة العربية: (انسوا هيروسترات) التي عرضت عام ،1970 و(تيل أولين شبيغل) التي عرضت عام ،1974 و(البيت الذي بناه سويفت) التي عرضت عام 1980.
واجه غورين الاستبداد بالفن، والتقط بعينه الناقدة جشع السلطة المهيمنة وضيق أفقها، ورسم شخصيات واقعية، وأبطالاً جذابين. واستطاع بخياله الواسع وحواراته الرشيقة، وبراعته في توظيف اللغة لإيصال رسائل متعددة إلى الجمهور والحاكم والحاشية والرأي العام، أن يظهر قدرة المسرح على أن يشكل رافعة لإعادة بناء الواقع على أسس إنسانية.
مسرحية أولين شبيغل كوميديا ساخرة، تندد بالعنف المفرط، وتوجه سهاماً لاذعة للاستبداد والغباء، وتنتقد بقسوة ظلم الملوك وفساد الحاشية، وتعري السلطة الثيوقراطية المتسترة بالدين، وتعلي من شأن الحب الحقيقي والجمال والإحساس الإنساني النبيل، وتبحث بدأب عن كل ما هو إنساني وعادل وبهيج. وفيها مفارقات دالة بعيدة عن التهريج والابتذال.
يكسر غورين حاجز الزمن ويعود إلى العصور الوسطى أيام محاكم التفتيش، وملاحقة المتهمين بالهرطقة أو بممارسة السحر والشعوذة، وأيام انحدار الإمبراطورية الإسبانية والصراعات بين الإمارات الإقطاعية. ويروي حكاية تيل الشاب الذي يُنكب بإعدام والده، نتيجة اتهام ظالم بالهرطقة، فيغرقه حزن شديد، ويغضب ويعلن أنه سينتقم من السلطة المستبدة، ومن الجلاد الذي لم يكتف بقتل بريء، بل صادر مدخراته، لأن نصفها يمنح مكافأة له، ويذهب النصف الثاني إلى الملك.
ويبحر تيل إلى معسكرات الغوزيين الأعداء، ويحاول خداعهم بتقديم معلومات عن دفاعات الإسبان الساحلية، ويتخلص من الإعدام ببراعة عبر مواقف يمتزج فيها اندفاع الشاب بمرح المهرج، ويكشف خلالها انحلال السلطة الغازية واعتمادها على خبرات خارجية، فالملك فيليب يغازل آنا زوجة الجنرال، والصبية الحسناء تجد نفسها محاصرة بين محاولة إظهار الخضوع لسلطة الملك وبين وفائها لزوجها الجنرال الكهل الغبي. وحين تصادف تيل الهارب من الملاحقة تميل إلى حيوية الشاب، وحين يحاصره الجنود تدله على منفذ للنجاة.
يكشف تيل خطط الغوزيين، ويكشف استخدامهم ضباطاً من الألمان للتدريب، ولجوءهم إلى وسائل سافلة من أجل الانتصار على الإسبان، ويبلغ هذه المعلومات إلى حاكم مدينة بريل الإسبانية، لكن عقوبة الإعدام ظلت تلاحقه، فيقبض عليه، ويأتي السماك الذي أعدم والده حرقاً، ويشكو له سوء حاله، ويبلغه ندمه على اختيار هذه المهنة، ثم يتبادلان الملابس في لعبة خداع للحراس،الذين يقتحمون السجن ويقتلون السماك، وهم يظنون أنهم أعدموا تيل. لكن صوتاً يتردد على مسامعهم ويقول: تيل حي، ويبلغ صديقه لامي في ختام المسرحية أنه حي لأنه (روح فلاندريا)، هكذا قالوا حين ظنوا أنه قتل، لعلمهم أن الروح حية. ورغم مصارحته لصديقه لامي بأنه حي، إلا أن مسألة تعوّد الناس على أنه قد قتل ودفن يصعب نقضها، وما يشغل الناس في المملكة هو تحديد مكان إقامة النصب التذكاري لتيل في العاصمة أمستردام أم في مدينة بريل.
تكشف المسرحية القبح الذي تصير عليه النفوس في أزمنة الحروب والظلم والتوجس. وتكشف المظالم التي تصيب أهل القاع الاجتماعي من حرفيين وجنود وعمال خدمة. والدمار الذي يلحق بالمدن نتيجة جشع الأقوياء ونهبهم. وقد وظف غورين خبراته وثقافته واطلاعه على الحكايات الشعبية والدينية ليقدم لعبة مسرحية متقنة، فينجح تيل في تخطي مواقف خطيرة، ويسخر من الملك، ومن خططه وقراراته ومن بطانته الغبية: يقول الملك فيليب مخاطباً السماك الذي وشى بتيل ورد حصته من مال والده المقتول إلى خزانة المملكة: اللعنة مع من نضطر للتعامل في هذه الحرب: أعداؤنا شحاذون، وأصدقاؤنا سفلة! ص 137.
ويلحظ غورين أن الاستبداد في كل العصور لا في العصور الوسيطة وحدها يقود إلى الدمار، لكنه يقدم مفارقة تدعو إلى التأمل، فيقول على لسان تيل: الطبيعة تتجدد عبر الدمار، والملوك هم أيضاً من نتاج الطبيعة.. إني أكره الطبيعة حين تزرع الموت، وسيأتي وقت أصفي فيه الحساب مع البراكين. ص 174.
سخرية غورين طالت النوازع الخفية لدى الظالمين، ومحاولتهم تعويض عجزهم بمظاهر فارغة، أو بإظهار استعلاء فارع، وهم في خوف دائم من انكشاف عريهم وضعفهم وغبائهم، والتهم جاهزة للتخلص ممن تسول له نفسه الإشارة إلى هذا العري أو انتقاده وفتح أبصار الناس على المفارقات المحزنة. ويشير تيل في خاتمة الفصل الثاني من المسرحية هامساً للسماك: لا يحزنني أنهم قد يشنقونني، ولكن يحزنني أنهم لن يستمعوا إلي.
وضمَّن غورين فصلي المسرحية بأغنيات شعبية رائجة، استطاع توفيق المؤذن المخرج والمترجم صياغتها بإيقاعات وُفِّقَ في معظمها، ومنها (أغنية الغضب) التي تقول:
يا لهذا البلد المعطاء /فيه كل ما طاب من طعام وشراب/ فكلوا واشدوا وعيشوا/ والعنوا الشيطان ولتحيَ بلادي/ فلاندريا.
وبوسع المرء أن يكسب أموالاً/ وبالقانون إما باع أمه/ لا تخف بعدئذ محكمة الرب/ وجئ بالملك الظالم واهتف:/ هو يارب الذي حولني كلباً/ هو المذنب ليس الذنب ذنبي/ ولتعش هذي البلاد/ فلاندريا! ص 113-114.
أنعش غريغوري غورين المسرح الروسي والأوربي. وقال المخرج مارك زاخاروف الذي قدم مسرحية تيل أولين شبيغل في أول عرض لها: (أحدث تيل ثغرة في ريبة المتفرجين، وأعاد العلاقة بين العصور، وفتح الطريق أمام أبطال مسرحيين آخرين).
وسخرية غورين طالت واقعنا المعاصر، إذ تطغى لغة الاستقواء والنهب، ويتشيأ البشر ويتحولون إلى أرقام، أو كائنات مغلوبة ومحاصرة. وتستخدم أدوات جهنمية في قهر الناس أو تدمير وعيهم. ويصبح وجود شخصيات مثل تيل متوقعاً وضرورياً.
استحق غريغوري غورين عضوية اتحادات الكتاب والسينمائيين والمسرحيين في بلاده، ونال لقب الاستحقاق الفني لروسيا الاتحادية عام ،1967 وحصل على جائزة (توراندوت الكريستالية عام 1995)، كما حصل على جائزة (أستاب الذهبي) عن لوحاته ومسرحياته الكوميدية الساخرة، وأعطى بنتاجه المميز نكهة محبته لهذا الفن الذي يعد مسرّة ومدرسة ومفتاحاً لوعي الناس بواقعهم، ولتمكينهم من تجاوز الخيبات.