الناقد والشاعر الأردني عبد الله رضوان يستكشف «الآخر في شعر درويش» في ثنائية المرأة والوطن

يبحر الناقد والشاعر الأردني عبد الله رضوان في مؤلفه الجديد (الآخر في شعر محمود درويش) عبر دراسة استقصائية لمجمل التجربة الشعرية للشاعر الراحل خلال 43 عاماً، (أي بين عامي 1964 و2007)، لاستكشاف أشكال وصيغ الآخر في قصائده، وخاصة المرأة والوطن.

ويرى رضوان في مؤلفه المكون من (مئة وثمان وثلاثين صفحة من القطع الصغير)، والصادر مؤخراً عن (دار الخليج) بعمّان- أن المرأة شكلت (ثيمة) رئيسية في الخطاب الشعري للراحل درويش، إذ أمكن رصد خمسة أشكال لصيغ تجلياتها، كالمرأة الحبيبة في (ريتا)، وتحولاتها الصعبة التي تشكل شخصية إشكالية.

ويشير الكاتب إلى أن حضور (ريتا) تكرر في خمس قصائد هي: (ريتا والبندقية) و(ريتا أحبيني) و(تقاسيم على الماء) و(الحديقة النائمة) و(شتاء ريتا)، وهذا يبين حضورها الشعري على مدى 25 عاماً.

وتظهر في قصيدة (ريتا والبندقية)  ثنائية دلالة البندقية التي تحول دون تواصل الحبيبين، لكنها لا تلغي وجود الحب. فالبندقية في يد الحبيب أداة ثورة وتحرر موجهة ضد المحتل الذي تُمثل (ريتا) أحد تجلياته اليومية. بينما البندقية في يد المحتل أداة قهر واحتلال ضد الفلسطيني الثائر.

ووفقاً للدراسة، فإن الذي يثير جدلاً هو وصف درويش وجه (ريتا) الحبيبة بأنه أجمل من وجه أمه التي يحن دائماً لخبزها، وهو الأغرب والأندر في تشبيهات الشعر العربي، وغير مسبوق في بنيته أو دلالاته.

فوجه الأم أجمل ما يراه الطفل في الحياة، والشاعر طفل متجدد دائماً. كما أن الأم واحدة من رموز الخصب والطمأنينة.

والسؤال هو: هل نجح درويش في بناء علاقة حب انتصرت ولو شكلياً على البندقية؟ ذلك أن العصافير رمز الفرح والحياة، تطير باسم الشاعر بحثاً عن الحرية، لكنها تقتل.

ومن وجهة نظر (رضوان)، فإن شعراء الأرض المحتلة قدموا حالة من التوحد بين المرأة والوطن باعتبارهما رمزَيْ الخصب والعطاء والسكن بالمفهوم الأنثروبولوجي. وقد كان درويش من رواد هذا التوجه فلسطينياً وعربياً.

أما المرأة -خارج (الحبيبة – الوطن)، فقد تفنن درويش في إبراز أنوثتها، واعتبار المرأة اللغة ذاتها، وأن اللغة إذا خرجت من أنوثتها فإنها تنحرف عن مسارها (لولاك لانحرفت لغتي عن أنوثتها)، وهذه ربما تكون (الحالة الأرقى في التعامل مع المرأة)، فحين تكون اللغة أنثى فإنها تحمل كمّاً من الدلالات، كالرقة والمحبة والعطاء والخصب والحب.

أما في قصيدته (حالة حصار) فهناك دعوة للتعايش وقبول الآخر على المستوى الظاهري: (أيها الواقفون على العتبات ادخلوها/ واشربوا معنا القهوة العربية)، ذلك أن تعاملهم معنا سيحولهم إلى بشر قابلين للحياة، وإذا أصبحوا كذلك فإن أول تجليات هذا الإحساس البشري هو الخروج من الأرض المحتلة.

ووفق المؤلف، فإن درويش واصل مسيرته الشعرية في بناء النموذج المقاوم عبر تجسيد نموذج محدد، بدءًا من عبد الله في قصيدة (آه عبد الله)، وصولاً إلى النموذج الأرقى في (أحمد الزعتر) و(محمد). ويقول درويش: (كان عبد الله حقلاً وظهيرة/ يحسن العزف على الموال/ فاجؤوه مرة يلثم في الموال/ سيفاً خشبياً وضفيرة/ حين قالوا إن هذا اللحن لغم).

وحسب ما يراه (رضوان) عقب سنتين من الدراسة لقصائد صاحب (أثر الفراشة)، فإن الرحيل أو البعد القسري خاصية لشاعرنا كفلسطيني، والرحيل الاختياري للحبيبة في الدولة الزنزانة ضروري لوجودهما، أما قدر هذا الحب غير المألوف أو غير العادي فهو محدد سلفاً، فلا لقاء ولا تواصل.

ويرى المؤلف في دراسته تمثلات وردت في شعر درويش بوصفه مصطلحاً فلسفياً أو مفهوماً ملتبس الدلالة متداخل المعنى في المواقف المتعددة الإشارات والدلالات.

و(الآخر) مصطلح أو مفهوم، كما يعرفه الباحث، ملتبس الدلالة، متداخل في المعنى المقصود، نسبي الموقف، أي بمعنى أنه  متغير حسب الموقف الأيديولوجي أو الجنسي أو حتى حسب الموقف الجندري (أي الجندر) أو القومي، إلى غير ذلك من رؤى ومواقف متعددة المعاني والاحتمالات .

 كل من هو غيري، (أنا)، هو (آخر) بمعنى ما، فهنالك إذن (الآخر الديني) و(الآخر القومي)، و(الآخر الأيديولوجي)، و(الآخر الجنسي)، والآخر (الجندر).

كما أن هناك (الآخر الجحيم)  بالمعنى الفلسفي، في الفلسفة الظاهراتية السارترية، وهناك (آخر أشبه بوجه من وجوه الأنا ذاتها)، وكذلك (الآخر الشعري) بالمعنى الإبداعي بوصفه شاعراً.

عند تحديد هذا (الآخر) الذي نريد في هذا البحث، فإننا نقصد أشكال تمثلات  الآخر كما وردت في أشعار محمود درويش بتعدد هذه الأشكال كماً ونوعاً صيغ (الآخر) وتمثلاته.

وقد تمكن الباحث عبر هذه الدراسة لأشكال وصيغ تمثلات الآخر في شعر درويش، ضبط الصيغ التالية:

– (الآخر) المرأة، وقد اتخذت المرأة في شعر درويش التمثلات التالية: المرأة الحبيبة كما تجلت في قصيدة (ريتا، وتحولاتها الصعبة والمتغيرة، المرأة الوطن. والمرأة (الجندر)، المرأة وتعدد الدلالة، وأخيراً المرأة (الإسرائيلية) القاتلة والمقتولة معاً).

– (الآخر) القامع والدموي وقائعياً وتاريخياً وأسطورياً، وذلك وفق الأشكال التالية -(الآخر المحتل)، (الآخر الفاشي)، (الآخر الغازي تاريخياً وراهناً)، (الآخر حضور الأسطورة – حضور الميثولوجيا)، و(الآخر البدوي)، و(الآخر الموت، والثائر، والناقد)، و(الآخر الأنا بوصفها ذاتها).

كل هذه الصيغ والتمثلات عاينها الباحث بالتفصيل، وكما جاءت في أعمال الشاعر التي اعتمدها الباحث مصدراً رئيساً في بحثه في أكثر من ديوان ومجموعة.

يشار أخيراً إلى أنه صدر للناقد عبد الله رضوان دراسة أخرى بعنوان (القدس في الشعر العربي المعاصر)، عن الدار نفسها، وهي قراءة نقدية في الحضور الشعري أمام تحولات القضية الفلسطينية على أكثر من صعيد.

 

ويتوقف رضوان في هذه الدراسة على تلك الصيغ والأفكار والأشكال التي تعامل معها الشعراء العرب في العصر الحديث مع مدينة القدس، في تركيز على منهجية دراسية تتوخى ثلاث قضايا رئيسية هي: الجانب الاجتماعي والإنساني، والتاريخي والأسطوري ، والبعد الجمالي في التعبير الشعري باعتباره أساس الفعل، إذ لا أهمية للخطاب الشعري إلا إذا استوفى شرطه الفني أولاً.

 

الكتاب:  (الآخر في شعر محمود درويش .. دراسة سوسيولوجية تاريخية) 

المؤلف: عبد الله رضوان

الناشر:  دار الخليج للنشر والتوزيع. عمان  ط1 – 2012.

العدد 1140 - 22/01/2025