«التعليم في ولاية دمشق في العصر العثماني»

لعل خطورة الكتاب وأهميته تكمن في قيمة المعيار الفكري الذي يمتلكه المؤلف/ الباحث محمد إبراهيم الحوراني، من خلال تعدد الصيغ الفكرية التي يكتب بها، بحيث يولي قيمه لمؤلفاته.

إن كتابه (التعليم في ولاية دمشق في العصر العثماني) للفترة من عام 1278 هـ  لغاية 1327 هـ (الموافق 1861 م لغاية 1909م)  هو دراسة توثيقية يحمل مدلولاته القيمة الأهم، والأخطر، وهي استرجاع الماضي بصيغة الراهن المعقد، وما يحدث خصوصاً على الساحة السورية للاستدلال من خلال ذلك على أن الرؤية العثمانية المتعصبة ماتزال تحمل سيف استبدادها القديم.

وفي موضوع التعليم، فقد بيّن محمد الحوراني في كتابه أن عسكرة الحياة تجاه الغير – غير العثماني- ستظل قائمة بمفاهيمها ورؤاها للأبد، فروح الكتاب كله تكمن فيما جاء عبر الغلاف الأخير، وهو (الزبدة) لفصول الكتاب لها.. لم يترك الاحتلال العثماني في الوطن العربي أي أثر علمي أو حضاري، تستذكره الأجيال اللاحقة، بل على العكس من ذلك، عمد العثمانيون إلى تجهيل المجتمع العربي وتدمير تراثه الحضاري والإنساني، محاولين بناء حضارة وهمية، هشة، وعلم خرافي يعتمد على (الزوايا والتكايا، وتقديس الأشخاص).. وقد اعتمدت الدولة العثمانية على البداوة العثمانية المغلفة بغلاف التدين المذهبي والعرقي، واستنهاض العصبيات، وإثارتها بالفتن، وإدامة الفوضى، مع حرص عثماني كبير على تغييب العروبة عن الوعي العام، وإضعاف لغة القرآن الكريم، وطمس الذات العربية الإسلامية النهضوية، وتعويم تراث (التخلف والتبعية). ومع ذلك فإذا كان الفكر العربي عانى ما عانى من هذه التبعية الغاشمة، فإنه للحقيقة قد وقف عند بعض المحطات المضيئة في ذلك التاريخ الضبابي الغاشم، ليبرز للعالم أجمع أنه يملك فكراً حراً نزيهاً.

وللإنصاف ذهب محمد الحوراني إلى القول باستجابة قسم من سلاطين النصف الأول من القرن الثامن عشر لفكرة الإصلاح وتطوير هيكليه النظام السائد، على العكس تماماً من بعض السلاطين المتزوجين بأوربيات، سلاطين مثلوا أخطر حقبة ضعف عثمانية، بيّن محمد الحوراني أن العثمانيين كانوا الأسوأ بين محتلي الوطن العربي وغاصبيه: عملوا على (تتريك) نمط الحياة وأفقروا الثقافة العربية الأصيلة روحياً وإفساد الإدارة، وأصيب الشعب العربي باستلاب سياسي، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى خلق ضعف اقتصادي خطير، أنهك مقاومة الشعب، مما مكن الفرنسيين من احتلال البلاد في مراحل لاحقة.

والحقيقة أن مدينة دمشق سبقت مدينتي بغداد والقاهرة في تأسيس المدارس والعناية بها، والاهتمام بطلبة العلم فيها، وتقديم المعونات اللازمة لهم.. ولعل أبرزها المدرسة النظامية عام 1077م بعد المدرسة (الصادرية) و(الرثائية)، بالمقابل كانت هناك مدارس عامة ومدارس خاصة لأبناء الأمراء ورجال البلاط، ومدارس تعليم الانكشارية، ولعل المدارس العثمانية أولت اهتمامها بطلاب مسيحيين ويهود، تماماً كما أولت اهتمامها بالطلبة المسلمين، وهذا جزء في مدارس دمشق يتعلق بالتسامحية مع أطياف الطلبة كافة، بل لقد ذهبت استجابة الدولة آنذاك إلى السماح بافتتاح المداس ورفع الأيدي عنها، وقدمت للأهالي دعماً سياسياً واقتصادياً،وأجازت لهم استيراد لوازم التعليم ومعداته من أوربا، وكلفت الولاة جميعهم بالمساعدة في ذلك (ص19). ولعل مفتاح الفصول جميعها في الكتاب هو الفصل الأول، حيث السياسة التعليمية في الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر ومنظومة الأفكار في الكتاب تتعلق بـ:

1- اهتمام السلاطين بالتعليم.

2- التعليم في الدولة العثمانية قبل التنظيمات 1255هـ 1839 م.

أ- التعليم الحكومي الحديث.

ب- التعليم الأهلي  (تكايا وزوايا).

ج- التعليم في عهد السلطان عبدالحميد الأول (1188-1204 هـ) (1774-1789م).

د- التعليم في عهد السلطان سليم الثالث: 1204-1222 هـ الموافق 1789-1807 م.

3- حركة الإصلاح وانعكاساتها على التعليم (1223هـ- 1808م).

4- التعليم في عهد السلطان محمود الثاني (1808- -1839 م).

5- التعليم في عهد السلطان عبدالمجيد (1839- 1862م).

6- دور خط شريف كلخانة في تطوير التعليم 1839م.

7- النشاط التعليمي في دمشق خلال القرن التاسع عشر.

ولعل الكلمة الأخيرة ما ورد في خاتمة الكتاب ص ،196 إذ إن الحركة التعليمية والثقافية التي شهدتها بلاد الشام ورعتها دمشق، بالتساوي مع بيروت، ولدت النهضة والثقافة، وإن كانت مستقاة من الغرب الأوربي، إلا أن المثقفين العرب في بلاد الشام عُرّفوا بأخلاقية العرب وتراثهم الحضاري، وذلك عندما انكب الشباب المثقف على دراسة اللغات والآداب في تلك الدول التي قطعت شوطاً كبيراً في المجالين العلمي والثقافي.. وفيما يتعلق بالعثمانيين في مجمل أبحاث الكتاب، فقد خلص الباحث إلى نتيجة مهمة مفادها أن العثمانيين لم يسهموا بأي تطور حضاري أو فكري في الوطن العربي أثناء احتلالهم له،كما أنهم اعتمدوا على تراث من سبقهم في هذا المجال، وأسسوا بناءهم للمدارس والجوامع على خبرات سابقة ومتراكمة، وبالتالي يمكن القول إن الوجود العثماني في الوطن العربي يشبه إلى حد كبير مدّ البحر وجزره، وليس أدل على هذا من انعدام الآثار لإيجابية للمرحلة العثمانية في الوطن العربي.

محمود حامد

العدد 1140 - 22/01/2025