الرجولة.. مفاهيم أم مواقف..؟

يقول سقراط: (إذا احتفظت برأسك عالياً في الوقت الذي يُنزل فيه الباقي رؤوسهم.. فاعلم أنك رجل… وإذا صبرت في وقت لا تملك فيه سوى إرادتك.. فاعلم أنك رجل)!

ما بين الشموخ والصبر وقوة الإرادة، تتنوّع مفاهيم الرجولة ومعانيها في أذهان الكثيرين، تبعاً لمفاهيم ومعانٍ أرسى أسسها وقواعدها المجتمع بمختلف قيمه واتجاهاته الدينية، والسياسية، والفكرية، والثقافية التي عششت فيه منذ أزمان وأزمان مفاهيمُ مغلوطة عن بعض الصفات التي اتخذت صفة الديمومة بين جنسي البشر (ذكر وأنثى)، فقد التصقت صفة الرجولة بجنس الذكر، مثلما التصقت صفة المرأة بجنس الأنثى، حتى صار كل ذكر رجلاً، وكل أنثى امرأة، بغض النظر عن الكثير من المغالطات والمفارقات التي تلازم هاتين الصفتين.

تلعب التربية الأسرية الدور الأكبر في تعزيز صفة الرجولة الواهية عند الذكور منذ مرحلة الطفولة المبكّرة، دون الوقوف عندما يمكن أن يتشبث بذهن الطفل من مفاهيم خاطئة لتلك الرجولة، التي يراها ربما بالتمرد على كل شيء، أو التسلط والعنف، وربما الانزواء والانطواء لدى بعض الأطفال ممن لا يتمكنون من تلبية آمال آبائهم، وهذا ما يُفضي إلى سيادة الذهنية الذكورية التي لا تمت بصلة إلى مفهوم الرجولة الحقيقي واستمرارها، كما تلعب الدور ذاته القيم المجتمعية القائمة على تمجيد الذكورة ورجولتها المفعمة بمفاهيم ترتكز في أساسها على مبدأ القوة العضلية على حساب العقل والاتزان، إضافة إلى تعزيز السيطرة المطلقة على الإناث انطلاقاً من مفهوم سائد للآية التي تقول: (الرجال قوّامون على النساء).

وسأقتصر على تناول هذا الجانب الذي يُعد أحد أهم ما يمكننا تناوله( من جوانب أخرى متعددة) عن مفاهيم الرجولة المتعددة في المجتمع.

إذا ما أمعنّا النظر جيداً في موقف الرجل من المرأة (وفق مفهوم الرجولة أعلاه) قديماً وحديثاً، نجد أن هذا الموقف قد تراوح ما بين مدٍّ وجزر. ففي الماضي، كانت الرجولة تقتضي الرعاية الكاملة والخالصة للمرأة، انطلاقاً من كونها ضلعاً قاصراً مادياً ومعنوياً، بمعنى أنها كائن لا حول له ولا قوة في مجتمع يعطي الرجل سلطات مطلقة من جهة، ومن جهة أخرى، فهي عالة لأنها غير منتجة بالمفهوم المادي، أي أنها دائماً بحاجة مادية للرجل بمختلف صلاتها به( أب، أخ، زوج، وابن) رغم أن المهام التي تؤديها لا تقل أهمية عمّا يؤديه الرجل في المجتمع، وقبل هذا وذاك، هي معيار شرف الرجل مثلما هي معيار شرف المجتمع برمته، وشرفها دائماً يصونه الرجال- الذكور وفق المفهوم التقليدي للشرف الذي يتجلى حيناً بانزوائها بعيداً عن عالم الذكور- عدم الاختلاط- أو بقبولها لما يُرسم لحياتها من قبلهم، سواء على مستوى الزواج أو التعليم أو سواهما من أمور تتعلق بصميم شخصيتها الإنسانية. لذا، كان غالبية الذكور- الرجال يتعاملون مع المرأة بمودة ورحمة، فرضتها القيم المجتمعية والدينية التي توصي بذلك، كما جاء في سورة البقرة (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف)، وكذلك الآية التي وردت في سورة النساء (وعاشروهن بالمعروف)، إضافة إلى الحديث النبوي الذي يقول: (واستوصوا بالنساء خيراً)، وحديث آخر يقول: (أكملُ المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم).

وانطلاقاً من هذا، غالباً ما كانت العلاقة بين الطرفين تسودها الرحمة والمودة، وخشية الرجل من احتقار المجتمع له، بغض النظر عن احترامه الداخلي للمرأة من عدمه، ولأن المرأة حينذاك، كانت مقتنعة تماماً بوصاية الرجل وقوامته عليها.

طبعاً، هذا لا يعني أننا نؤيد هذا النمط من العلاقة بين الجنسين، وإنما نحاول المعايرة ما بين زمنٍ غابر، وحاضر متوتر بالنسبة للرجل.

أمّا اليوم، منذ أن دخلت المرأة في العصر الحديث مجالات العلم والعمل، وقَبِلَ الذكر- الرجل بذلك، فقد تغيّرت المفاهيم، وتبدّلت الرؤى عن ماهية علاقة الرجل بالمرأة التي غالباً لم تعد بحاجة مادية إليه، وإن بقيت بحكم الموروث الاجتماعي والديني، بحاجة معنوية واجتماعية له. فالرجل في المجتمع الشرقي يُعاني اليوم فصاماً فكرياً وأخلاقياً ما بين موروث عمره ملايين السنين، وما بين حاضر متغيّر بمفاهيمه فارضاً نفسه بقوة، لذا تراه أبداً في المنطقة الرمادية، مرتبكاً ما بين ازدواجية الأعراف الاجتماعية والتقاليد الحاكمة لعلاقته بالمرأة، وتحديداً زوجته، وما بين التغيّرات التي فرضت عليه قبول مشاركتها له بمهام الحياة ومسؤولياتها، إنه تائه ما بين الالتزام بالرؤية التقليدية لقوامته على المرأة بالمفهوم الاجتماعي، وواقع يُلزمه بقبول مشاركة المرأة بكل أوجه نشاطاته وحتى منافسته، إضافة إلى عوائق أخرى متعددة تحول دونه ودون قناعته بالمشاركة الفعلية للمرأة داخل المنزل أو خارجه.

وهنا باعتقادي تكمن جذوة المشاكل المتعددة التي تواجه الطرفين في علاقة أحدهما بالآخر، لأن الرجل- الذكر لم يتخلّص ضمنياً بعد من ذكورته التي ضخّمتها وضمّختها القيم الاجتماعية والدينية الموروثة بما يُرضي غروره، وإن بدا في كثير من الأحيان والحالات رافضاً لها، كما أن المرأة ذاتها، لم تعد تقبل، ولا حتى تتقبّل الشكل السابق لعلاقتها به، لاسيما أنها أصبحت شريكة له في كل شيء، حتى في تأمين أدنى احتياجات الأسرة. لذا فإن المشاكل بينهما صارت أكثر حدّة وعمقاً عمّا سبق في العهود الماضية، فالرجل، حتى لو بدا ظاهرياً متحضّراً ومقتنعاً بتعليم المرأة وعملها، ومقتنعاً أيضاً بمساواتها له، وتجذبه المرأة المتميّزة بقوة شخصيتها وعلمها وعملها، غير أنه ضمنياً لم يقبل بخسارة امتيازاته التقليدية، وهذا ما يجعله في كثير من الأحيان يتشبث بما فرضه الشرع، وفق المفاهيم السائدة، وأولها مبدأ القوامة، وبأن عليها أن تكون مطيعة لأوامره مهما علا شأنها، ومهما ارتقت مكانتها العلمية والعملية، رغم أن تلك الأوامر والنواهي قد تتناقض مع الواقع الذي قبله منذ بدء ارتباطهما، وأنها قد تؤذي إنسانيتها واستقلاليتها. ومما يجعله يتشبث بتلك الأمور، هو الاختباء والاحتماء بالمجتمع(وربما بضمنه أهلها) الذي سيقف إلى جانبه، لأن هذه المرأة بنظرهم قد نشزت.

بعد كل ما ذكرنا أعلاه، هل يمكننا إطلاق صفة الرجولة على ذكور لا يستطيعون، أو لا يقبلون التحرر من موروث ثقيل يكبّلهم، ويجعلهم يعيشون ازدواجية مقيتة، موروث يقيّدهم عن التمتع بحياة مستقرّة، قائمة على أساس الاحترام والتشاركية والمودة..؟ فليعلم الرجل أنه بالنسبة للمرأة، الأب والأخ والابن والصديق، وبأنها تريد ممن يشاركها حياتها ويسير إلى جانبها أن يكون رجلاً فكراً وعقلاً، لا شكلاً فقط،  فالرجولة قول وفعل.

العدد 1140 - 22/01/2025