في سورية.. كل يوم عيدٌ للشهداء
شكّل قرار والي دمشق العثماني جمال باشا السفاح بإعدام كوكبة من خيرة مناضلي العرب ومثقفيهم آنذاك صدمة كبيرة لعموم العرب والسوريين، وقد نُفِّذ حكم الإعدام في ساحة البرج ببيروت عام 1915 وساحة المرجة بدمشق عام 1916. وقد اعتُمد لكل من الساحتين المذكورتين منذ ذلك التاريخ اسم ساحة الشهداء.
كان لتلك الحادثتين وما سبقهما وتلاهما من ممارسات العثمانيين الوحشية أبلغ الأثر في نفوس الشرفاء، وشكلتا فيما بعد نقطة انعطاف هامة في تخليد ذكرى الشهداء منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، وأصبح السادس من أيار عيداً رسمياً للشهداء في سورية ولبنان.
ولم تتوقف بعد ذلك قوافل الشهداء على مساحة العالم العربي الذي وقع برمته تحت الانتداب الإنكليزي- الفرنسي، وقدّم الشهداء قوافل وقرابين على مذابح الحرية والاستقلال أواسط القرن الماضي، وكذلك هو الأمر منذ ظهور اسرائيل في المنطقة خنجراً مسموماً في الجسد والجغرافية العربية، وكأن قدر هذه الشعوب أن تبقى رهينة مشيئة مستعمرين أرادوا، حتى يومنا هذا، أن تكون بلادنا مرتعاً لمصالحهم ومخططاتهم ونهبهم ونهمهم الذي لا يرتوي أبداً.
فهاهي ذي سورية اليوم، بعد مرور قرن على حادثة شهداء أيار، ومنذ أكثر من أربع سنوات، ما زالت تزفُّ أبناءها يومياً في حرب لم تشهد البشرية لها مثيلاً حتى أثناء الحربين العالميتين اللتين التهمتا ملايين البشر والجنود على مساحة العالم أجمع. لأن الحرب في سورية، حرب عالمية بلبوس وأدوات وأساليب جديدة من جهة، مثلما هي في جانبها الآخر حرب أهلية بين إخوة الماضي الذين استفاق في ذاكرتهم تراث من التخلّف والتمييز على أساس الدين والطائفة عمره آلاف السنين، ولم تمحه لا قوانين الحضارة، ولا أسس التعايش التي ميّزت المجتمع السوري برمته منذ بدء تكوّن المجتمعات واستقرارها حتى ما قبل آذار 2011
ما يميّز الحرب في سورية عمّا سبقها من حروب، وما يُثير الدهشة والرعب والهلع فيها، هو تلك البربرية في التدمير الذي طال كل ما له علاقة بالتراث والتاريخ والحضارة، في سابقة لم يصل إليها هولاكو ذاته، إضافة إلى الهمجية والوحشية في طرائق القتل وأدواته التي أبى إنسان الكهوف والمغاور اللجوء إليها.
فمنذ اللحظة الأولى لاستخدام السلاح، توالى سقوط الشهداء يومياً بأعداد لم تصل إليها أيّ من الحروب السابقة، وبطريقة وحشية تنمُّ عن حقد دفين وبغيض، فقد كان القتل يجري بطرق جماعية أكثر مما هي فردية، بمعنى أن يُقتل سكان قرية أو حي بالكامل، وأقلها أن تقتل أسرة بكاملها، أو عدة أفراد من أسرة واحدة، وأسهل الموت ما كان بالرصاص، لأنه في كثير من الأحيان استُخدم الذبح كالنعاج، دون أدنى رهبة أو شفقة لطفل أو مسن أو امرأة أو حامل بجنين قد يُبقر بطنها في بعض الأحيان، وأيضاً القتل بطريقة الحرق حين توصد أبواب البيوت على ساكنيها وتُضرم النيران فيها. هذا على المستوى المدني، أمّا على المستوى العسكري، فحدّث ولا حرج عن الأعداد الضخمة للمقاتلين، لاسيما أولئك الذين يتعرضون للحصار، أو لكمائن مباغتة سواء على الحواجز أو في ثكناتهم أو قوافلهم المتنقلة.
هو ذا الحال منذ أربع سنوات في سورية، ففي كل يوم ترتحل قوافل الشهداء ما بين شمال وشرق، أو جنوب وغرب، حتى لم يبقَ مكان في سورية لم تُزف إليه جثامين الشهداء، ولم تنجُ أسرة من استقبال شهيد أو أكثر لأم واحدة، حتى أن العديد من الأمهات السوريات فقدن في هذه الحرب المجنونة أكثر من ثلاثة أو أربعة أبناء إن لم يكن أكثر، حتى غاب معنى الشهادة وقيمتها من أذهان الكثيرين، لأن أعداد الشهداء في الأسرة الواحدة فاق ما هو متوقع أو محتمل. إن كل سوري اليوم، هو مشروع شهيد بين لحظة وأخرى، إن لم يكن بالطرق المذكورة آنفاً، فربما عن طريق القذائف أو الصواريخ عابرة المدن والأحياء، أو عن طرق التفجيرات التي صار حدوثها أمراً اعتيادياً ومتوقعاً في حياة السوريين.
من هنا، نجد أن عيد الشهداء في سورية لم يبقَ رمزاً وذكرى نحتفل بهم أو نخلّدهم من خلالها، بل صار طقساً يومياً أفرغ الشهادة من كل معانيها.