«دولرة» الأحلام

كان أبو محمود الفوال يفتح محله الصغير ذائع الصيت بعد صلاة الصبح ليعدّ الفول والحمص قبل أن يجتمع الزبائن على بابه، وينتظر مرور الأستاذ فؤاد في السابعة صباحاً ذاهباً إلى عمله ليرد على سؤال الحال بكلمتين: مستورة الحمد لله، لكنه يردفه بسؤال واحد لا يحيد عنه: قديش صار الدولار أستاذ؟؟

وكان الأستاذ فؤاد غير الملم بموضوع الاقتصاد كونه معلِّم مدرسة يجيبه كل مرة ضاحكاً وعلى مضض، (متل ما هو عمي أبو محمود، بحيطان الخمسين ليرة).

بقيت الليرة ثابتة أمام الدولار لسنوات طوال، مستقرة كما يقول أهل الاقتصاد، وكان الأستاذ من قراء الصحف اليومية وصار يلاحظ أسعار العملات في صفحة التسالي بناء على إلحاح أبي محمود الصباحي..

ومرة كان الأستاذ يقف مع الآخرين ينتظر دوره في الحصول على فول أبو محمود الشهي صباح الجمعة، تسنَّى له أن يسأل أبا محمود عن سبب هاجسه اليومي الغريب، إذ لم تكن أسعار الدولار تعرف هذا التحليق والتأرجح..

فقال أبو محمود: (أستاذ فؤاد انتو بتضلو أفهم منا ومثقفين ما شاء الله، بس بدك تتحمل فضولي، أنا شايف أنو رح يجي يوم وهالدولار بدو يذلنا يا ابني، وعم فكر اتغدى فيه قبل ما يتعشى فيني).

متى يا عمي أبو محمود وكيف تعرف ذلك؟

عمو جايتنا أيام صعبة، ورح يصير الفول اللّي ما حدا شايلو من أرضو واللي من إنتاج أراضينا بالدولار.

كان أبو محمود يحكي كأنه يقرأ في فنجان وكانت البلاد هادئة، والناس (مبسوطة) وراضية بالنصيب، وصامتة أيضاً . . .

ما إن بدأت الحرب حتى سارع إلى بيع المحل بما فيه.

 أين ستذهب وتتركنا يا أبا محمود؟

 تذكر ما كنت أقوله لك يا أستاذ، الآن بدأ الشغل، سأحوّل ثمن المحل وتجهيزاته إلى الدولار، هذه الحرب لن تبقي ولن تذر، وسيطير الدولار إلى الأعالي، ولن نجد سفينة نوح نلوذ بها إلاَّ الأخضر..

تأمل الأستاذ ملامح أبي محمود الفوَّال التي كان يحفظها جيداً ويحبها، كما يحب الحي البائس الذي يجمعه به، الحي الذي يأنف كثير من زملاء العمل من مجرد ترديد اسمه  بعد أن استفادوا من مواقعهم الوظيفية، واشتروا مساكن لهم في الأحياء الراقية البعيدة عن الاضطرابات والصدامات التي بدأت تشهدها أحياء حزام الفقر. بدت تلك الملامح تتبخر شيئاً فشيئاً من وجه الرجل الطيب، لتحل محلها صورة أرنب مذعور.

هكذا إذاً، هي الحرب بدأت تترك أثلامها على الأرواح والوجوه.

قال فؤاد وهو ينظر إلى الشعارات المكتوبة على الجدران وقد غطتها آثار دهان يحاول عبثاً أن يخفيها، كانت مقروءة على الأقل بالنسبة لأبناء الحي الذين حفظوها من كثرة سماعها وقراءتها على الجدران.

 يا أستاذ، أصبحنا نخاف من بعضنا، جارك الذي يسلم عليك الآن يمكن أن يقتلك غداً، سأغادر هذه البلاد، وآوي إلى بلد يعصمني من هذا الخراب.

لم يحاول فؤاد أن يقنعه بما يهجس به هو: الوطن ليس فندقاً نغادره حالما تسوء الخدمة فيه، الوطن هو هذه الأرواح التي غادرتنا وتركت لنا رائحة التعب والجوع، هو هذه البيوت الواطئة المتلاصقة كما لو انها تبوح لبعضها أسرار من مروا من هنا.

احتفظ بأفكاره لنفسه بعد أن عرف أن الرجل أحرق مراكبه، داعياً له بالتوفيق، طالباً منه أن يبقى على تواصل للاطمئنان عليه.

غادر أبو محمود إلى الأردن قبل أن تتكاثر حشود الهاربين من الموت والخراب فيها، وفتح مطعماً صغيراً يعيش منه هو وعائلته وأبناؤه مع زوجاتهم، وكان كلما اتصل بالأستاذ للاطمئنان يعيد لازمته: مستورة والحمد لله..

الاستاذ فؤاد الذي حاول أن يبقى في البلد رغم أن الحرب جاءت على منزله وخسر ابنه البكر ثم خسر عمله، واضطر إلى العمل بائع بسطة جوارب أمام سوق الحميدية، ما زال يتذكر أبا محمود، الطيب البسيط الذي لم يشارك في الحرب، لكنه عرف الطريق جيداً، ونصحه قبل الوداع: (يا ابني إذا جنَّ ربعك عقلك ما عاد ينفعك).

غامر بما كان يملك قبل أن يستبيحه حملة السلاح وينهبوه أو يحرقوه، ونجح في البداية من جديد، فيما الأستاذ المثخن بالجراح وبالوطن ما زال يحلم بمنزل وعمل وحياة هادئة.

الدولار طار في الأعالي، تحققت نبوءة أبي محمود وخابت قراءة الأستاذ، لكنه ما زال يحلم بوطن لا ببسطة خائفة من شرطي البلدية ومن المخبر، رغم أن الأحلام أيضاً (تدولرت)..

العدد 1140 - 22/01/2025