دكتاتورية توتاليتارية جديدة
إننا نعلم منذ أكثر من 25 عاماً على الأقل أن العولمة هي الظاهرة المهيمنة في هذا القرن. وهناك عشرات المؤلفين الذين قاموا منذ نهاية الثمانينيات بتحديد العولمة ووصفها وتحليلها سواء من الداخل أو من الخارج، أما ما لم يجر التركيز عليه، ولم تسلط عليه الأضواء كثيراً، فهو أن كل شيء في العولمة أصبح متبادل الاعتماد ومتصارعاً في آن واحد. إنها تفرض على العالم ديناميتين قويتين متناقضتين: الانصهار والانشطار. فمن ناحية، تنشد دول عدة التحالف مع الغرب، أي أنها تتبع فكرة الانصهار مع الآخرين لبناء مؤسسات، وخاصة الاقتصادية منها، التي تعطي القوة والأمان.
فعلى سبيل المثال قام الاتحاد الأوربي مع مجموعة من البلدان في آسيا وأوربا الشرقية وشمال إفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، بالتوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة وتقليص الحواجز الجمركية لتحفيز التجارة، فضلاً عن تعزيز التحالفات السياسية والأمنية. ولكن العديد من المجتمعات متعددة الجنسية تسقط، في مواجهة الستار الخلفي لهذا التكامل، ضحية الانشطار، إذ تتمزق أو تنفجر داخلياً إلى شظايا أمام الأعين المذهولة لجيرانهم. عندما تمزقت الدول الفيدرالية الثلاث في الكتلة الشرقية ـ الاتحاد السوفييتي، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا ـ تولدت منها 22 دولة جديدة أي قارة سادسة حقيقية!
لقد كانت التبعات السياسية مروعة. فالتمزقات التي أحدثتها العولمة أدت إلى إعادة فتح الجراح القديمة. لقد تزايدت الخلافات حول الحدود، وأيقظت جيوب الأقليات أحلام الضم والانفصال والتطهير العرقي. لقد أطلقت هذه التطورات العنان للحروب في البلقان، التي دامت طويلاً (في أبخازيا، والبوسنة، وكرواتيا، وكوسوفو ومولدافيا، وناجورنو كاراباخ، وسلوفانيا، وجنوب أوسيتيا). أما التبعات الاجتماعية، فلم تكن أقل وطأة، لقد كان تعجيل العولمة في أعوام الثمانينيات متوافقاً مع الليبرالية المفرطة عديمة الشفقة لكل من مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، ورونالد ريغان، رئيس الولايات المتحدة.
وسرعان ما اقترنت العولمة بتزايد عدم المساواة، وتعاظم البطالة، واللاتصنيع، وتدهور الخدمات العامة والسلع، والآن، أصبحت الحوادث والفوضى، وعدم اليقين، بمنزلة البارومترات التي يمكن استخدامها لقياس قوة العولمة.
ماذا يمكن أن نجد إذا ما قمنا بتقييم عالم العولمة اليوم؟
سنجد أن الفقر والأمية والعنف والمرض في حالة تصاعد. إن الخُمس الأغنى من سكان العالم يملك 80 % من الموارد العالمية، بينما يملك الخمس الأفقر 0,5% منها، ومن بين عدد سكان العالم البالغ نحو 7 مليارات نسمة، نجد أن نحو 600 مليون نسمة يعيشون في ظل ظروف مريحة، في حين يعاني 5 مليارات نسمة من ظروف الاحتياج، ونجد حتى في الاتحاد الأوربي 16 مليون نسمة يعانون من البطالة، ويعيش 50 مليون نسمة في ظروف الفقر. كما أن ثروة أغنى 358 فرداً في العالم مجتمعة تعادل ما يزيد عن العائدات السنوية لنسبة 45% من الأفراد الأفقر في العالم أي 2,5 مليار نسمة.
يبدو أن هذا هو عالم العولمة الجديد الشجاع.
تملك العولمة الكثير إزاء النقود، وبانبهارهم ببريق الأرباح السريعة، يعجز أبطال العولمة عن تقدير المستقبل، أو توقع احتياجات البشرية أو البيئية، أو التخطيط لتوسيع المدن أو التقليص التدريجي لعدم المساواة، ومعالجة التمزقات الاجتماعية.
يقول مؤدلجو العولمة إن تلك المشكلات سوف تحل عن طريق (اليد الخفية للسوق ونمو الاقتصاد الكلي ـ أو ما يسمى بـ (التفكير المنفرد). إنه يمثل مصالح مجموعة من القوى الاقتصادية ـ وخاصة الرأسمال الدولي المتدفق بحرية. لقد وصلت غطرسة التفكير المنفرد إلى أقصاها، بحيث يمكن دون مبالغة أن نطلق عليه الدوغمائية الحديثة. إن هذا المذهب، هذا التفكير المنفرد، يعدّ بمنزلة الإيديولوجية الوحيدة التي تجيزها شرطة الرأي الخفية كلية الوجود.
لقد ولد التفكير المنفرد عام ،1944 في فترة اتفاقية بريتون وودز. وقد نبع هذا المذهب من المؤسسات الاقتصادية والنقدية الكبرى، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية ـ تلك المؤسسات التي فتحت خزائنها العميقة لحشد المراكز البحتية والجامعات والهيئات في جميع أنحاء الكوكب من أجل نشر الكلمة الطيبة.
وفي كل مكان تقريباً، أخذت أقسام الاقتصاد في الجامعات، وأخذ الصحفيون والمؤلفون والقادة السياسيون يبتلعون أقراص القانون الجديدة هذه، ويكررونها عبر وسائل الإعلام. ووجد مذهبهم صدى نتيجة للمعلومات الاقتصادية التي يدلي بها المتحدثون الرسميون، وعلى نحو خاص ما يرد في (الكتب المقدسة، للمستثمرين وسماسرة البورصة ـ مثل مجلة إيكونوميست ووكالة رويترز للأنباء، و(وول ستريت جورنال)، التي عادة ما تملكها الجماعات الصناعية أو المالية الضخمة. ويقوم التكرار بدور جيد بطبيعة الحال، في مجتمعنا الذي تصنعه وسائل الإعلام، ويصبح هذا التكرار مثل البرهان أو الدليل.
ماذا، إذاً قيل لنا كي نصدقه؟ إن المبدأ الأساسي يتسم بقوة شديدة، حتى أن الماركسي يمكن أن يوافق عليه: يسود الاقتصاد على السياسة، أو كما يضعون الأمر الآن: (الرأسمالية لا يمكن أن تنهار، إنها الحالة الطبيعية للمجتمع. غير أن الديمقراطية ليست الحالة الطبيعية للمجتمع، أما السوق فنعم، مجتمع متحرر من صدمات السرعة الاجتماعية وأوجه عدم الكفاءة الأخرى هو الذي يمكن أن يتجنب التردي والأزمات.
أما التعاليم الرئيسة الأخرى للتفكير المنفرد فتنبني حول المبدأ الأساسي. وعلى سبيل المثال (تعمل اليد الخفية على تصحيح ما يشوب الرأسمالية من تفاوت وقصور) وعلى نحو خاص الأسواق المالية وتطويرها التي (توجه إشارات وتحدد حركة الاقتصاد العامة). إن المنافسة (تعمل على تحفيز الأعمال التجارية، وتؤدي إلى تحديثها على الدوام).
وتعتبر التجارة الحرة من دون حواجز، عاملاً من عوامل تنمية التجارة دون معوقات، ومن ثم تنمية المجتمعات. وينبغي، بأي شكل، تشجيع عولمة الإنتاج المصنوع، وخاصة التدفقات المالية. إن التقسيم الدولي للعمل (يخفف من مطالب العمالة ويقلص من تكاليف العمل). ومن الضروري وجود عملة قوية، كما هو الحال بالنسبة لكل عملية إلغاء للقيود أو خصخصة عند كل انعطافة. هناك دائماً (قدر أقل من جانب الدولة) وتحيز دائم لمصالح رأس المال بما يضر مصالح العمالة، فضلاً عن التفاوت الصارم للتكلفة الإيكولوجية. إن مواصلة تكرار هذه التعاليم الشفهية في وسائل الإعلام، بوساطة جميع صانعي القرار السياسي اليمينيين منهم واليساريين، إنما يمنحها قوة ترهيب تطفئ كل فكر حر متردد.
ترتكز العولمة على دعامتين أو نموذجين يؤثران في أسلوب تفكير دعاة العولمة، الدعامة الأولى هي الاتصال، وتميل للإحلال تدريجياً محل المحرك الأساسي في القرنين الماضيين: التقدم، فمن المدارس إلى الأعمال التجارية، ومن العائلات والقانون إلى الحكومة، يوجد الآن أمر واحد: الاتصال.
أم الدعامة الثانية فهي السوق الذي يحل محل التماسك الاجتماعي. بمعنى فكرة المجتمع الديمقراطي الذي يجب أن يسير بدقة مثل الساعة. لا يوجد في الساعة أي جزء غير ضروري، وكل الأجزاء موحدة. من هذه الاستعارة التي تعود للقرن الثامن عشر، يمكننا اشتقاق صيغة اقتصادية ومالية حديثة. وينبغي، من الآن فصاعداً، أن يسير كل شيء وفق (معايير السوق الرئيسية)، ما هي القيم الأساسية، من بين قيمنا الجديدة؟: الأرباح المفاجئة، والكفاءة، والمنافسة.
وفي هذا العالم المترابط داخلياً ويحركه السوق، لن يعيش سوى الأقوى. إن الحياة معركة، غابة. إن الداروينية الاقتصادية والاجتماعية، بدعواها الدائمة للمنافسة والانتقاء الطبيعي والتأقلم، تفرض نفسها على كل فرد وكل شيء، ينقسم الأفراد، في ظل هذا النظام الاجتماعي الجديد، إلى (مُذنب) و(غير مُذنب) ـ أي بمعنى قابل للاندماج داخل السوق أو غير قابل لذلك. ويمنح السوق حماية للقابلين الاندماج داخله فحسب. وعندما يصبح التضامن الإنساني حتمياً، في ظل هذا النظام الجديد، يصبح الباقون غير متوافقين ومنبوذين.
وبفضل العولمة، نجد أن النشطاء الذين يتحلون بأربع صفات اساسية هم فقط الذين ينجحون ـ وهذه الصفات هي: أنهم كوكبيون، ودائمون، وفوريون، وغير ماديين من حيث طبيعتهم. وتذكّرنا هذه الصفات الأربع بالسمات الأربع الأساسية لله ذاته. وفي الحقيقة، فالعولمة مشيدة كنوع من النقد الإلهي الحديث، إذ تتطلب الخضوع والإيمان والعبادة وأداء طقوس جديدة. يملي السوق الحق، والجميل، والجيد، والعادل، ولقد أصبحت قوانين السوق بمنزلة لوح حجري للتبجيل.
يجري التحذير من أن الابتعاد عن هذه القوانين سيجعلنا عرضة للفناء. وتبذل المحاولات لإقناع الناس بوجود طريق واحد فقط: طريق الليبرالية المفرطة ـ من أجل إدارة الشؤون الاقتصادية، ومن ثم السياسية. فالشؤون السياسية، في واقع الأمر كما يتم التأكيد، هي الشؤون الاقتصادية، والاقتصادية هي المالية، والمالية هي الأسواق. لقد هوجم البلاشفة سابقاً واتهموا بالتوتاليتارية عندما أعلنوا أن كل السلطة للسوفييت، وعندما يطالب أنصار العولمة المنفلتة من عقالها بأن (كل السلطة للسوق)، فإنها بذلك تصبح بما لديها من عقيدة نوعاً من التوتاليتارية الجديدة.