بوركت أيديكم.. وسلمت أصابعكم

دوّامة هي الحياة..

لا تهدأ، ولا تتوقف عن النبض، قانونها الثابت أن تتجدد كلَّ صباح، وقاعدتها الذهبية أنها في تغير دائم.. لا تمنح نفسها للأجساد إلى الأبد، بل الأبدان تستأجرها إلى حين، فتحل ضيفة على الجسد، والضيف نهايته إلى رحيل.

قوية هي الحياة، بل هي الأقوى من كل ما يحيط بها من قضبان وجلادين، هي الأبقى من كل خراب ودمار، فبعد الشتاء سيأتي الربيع، وبعد العواصف ستزهر الورود وأشجار اللوز.

ومهما حاولنا حبس الحياة، أو تقديم كل ما يساعدها على البقاء في أجسادنا، لا يمكن أن ترضى وتستكين، فهي دائمة التطلع إلى تجديد شبابها، فتترك منزلها  جسدها  الذي أقامت فيه لشهر أو لسنة، أو لمئة عام.. تتركه لتحل في أجساد ومنازل أخرى، مختلفة..

إنما ما الذي يبقى بعد الرحيل؟

قرنقلة رسمها فنان، وقصيدة خطها شاعر، ورواية ألفها مبدع، ولحن خلقه موسيقي.

أبنية وقصور وقلاع.. كل تلك الأشياء كان لليد دور هام وفضل كبير في خروجها إلى الوجود، وحفرها ورسمها وتدوينها فوق الورق وسجلات الزمن. تحفظ لنا اليد أعمالنا من الزوال، فهي هويتنا، تنفذ ما يوحي به القلب، وتكتب ما يفكر به العقل.

جسرٌ هي اليد المبدعة بين ضفتين، أو بحرين، أو حضارتين، تربط أمة بأمة، ووطناً بوطن، وفيلسوفاً بشعب.

وكأن الحياة مرتبطة بأصابع اليد، ارتباط الزهرة بعطرها، والشمس بضوئها، فما من شيء  يخرج ويبقى إلا وكان لليد دور في عملية الخروج، وبقائه على قيد الخلود. إنما كم من أصابع حلّت في أجساد لا تستحقها، وكم من يد نزعت أصابعها من أجساد كريمة، كانت أهلاً لأن تحيا وتعيش؟!

ومن الأيدي ما لها طبع الثعالب وغدر الضباع، ولدغ العقارب.

ومنها ما لها طبع الورود، ووداعة المطر والحمام. ويبدو لي أن لكل شيء ولكل حي أيدٍ وأصابع. فأصابع الشجر الأغصان، وأصابع الورود الأشواك، وأيادي الجبال الطرق، وأيادي البحار العواصف.

إن الصور الجميلة، التي يحلم بها الحالمون، والألحان العذبة التي يدندن بها الملحنون، والروايات والقصائد والمسرحيات التي يتمنى الكتاب خلقها فوق أرض الواقع والورق، ستبقى كل تلك الأشياء الرائعة دون معنى أو هدف إذا لم يحرك المبدعون أصابعهم لتنفيذ ما يحلمون به، فمثلما لا توجد طريق إلا بالمشي، كذلك لا يوجد عمل إلا بتحريك الأيدي لكتابته وتنفيذه.

فبوركت أيديكم أيها المبدعون..

وسلمت أصابعكم من كل أذى.

العدد 1140 - 22/01/2025