الانتماء بوصلة الهوية

الانتماء ظاهرة اجتماعية تدفع الإنسان للبقاء والدفاع عن ذاته فيه، فمنذ بدايات الوجود الإنساني على الكرة الارضية وجدت مع الإنسان ظاهرة الانتماء التي يحملها كالبوصلة،  توجهه وتدلّ عليه من حيث هو آتٍ والى أي مكان ينتسب، فتتحدد هويته وشخصيته. وهذه الظاهرة لم تبق في الحيز الضيق من المكان في الزمان ولا تقبل الانحسار ضمن دائرتها الصغيرة، بل تتطور وتتسع مجالاتها مع التطور الاجتماعي، فقد بدأت بحلقات ضيقة وتطورت منها إلى حلقات أوسع وأشمل. وكلما توسعت ازداد عدد الأفراد ضمن تلك الدوائر التي تتأثر فيما بينها وتؤثر في الآخرين،  عندئذ تتّحد في المجالات الاقتصادية والفكرية والسياسية وغيرها وتؤدي دورها في بقاء الإنسان وتطوره عبر مدى انتماءاته. لقد أدى ذلك كلّه إلى خلق المناخ الاجتماعي لأساس ظاهرة الانتماء وترسيخها أمام النزوع الإنساني في نفس كل إنسان، فتتمثّل حالته الاجتماعية وحبه للبقاء في ما ينتمي إليه، كما يدفعه ذلك إلى نهج سلوك معين يحقق له مبتغاه في الاستقرار والأمان. فيقدم من خلال هذا السلوك انسجاماً يحدد مسار حياته وكينونتها. فنجده يقبل بالتزامات يفرضها انتماؤه الاجتماعي بما عليه من حقوق يلتزم بها في شخصيته وحريته. فمن الانتماء الأول للإنسان نجد كثيراً من الواجبات التي تقيّده تحت سقف العائلة أولاً، وهي مستمدة من تربية الأب والأم، وهذه هي الحلقة الصغرى التي ينطلق منها، ثم تتطور وتتوسع نحو حلقات عديدة تصل به إلى الانتماء الأوسع، الوطن، وبعده الكرة الأرضية الشاملة لكل الانتماءات الإنسانية التي دخلت التاريخ وكانت الشاهد الحيّ للأمم جميعاً رغم اندثار الكثير منها في مسيرة الوجود البشري. أما الانتماءات المستمرة المتطورة في وقتنا الحاضر، فتؤكد بقاءها في أصالتها، وهنا يكون الانتماء مستنداً إلى ذاتٍ اجتماعية تحقق دلالة قومية إنسانية بإدراك الإنسان لماضيه وحاضره واستقراء المستقبل له ولشعبه، من خلال وضع الخطط السليمة ليكون هذا المستقبل إيجابياً لصالح أبناء المجتمع المنتمي إليه. من هنا يتجلى الوعي الذي يتماشى مع حالة الانتماء، وبه يتعزز بقاؤه واستمراره. والانتماء لا يمكن أن يحيا إلا بالوعي الذي يؤكد السمات التاريخية والحضارية المتطورة، وبذلك يثبّت القيم الصادقة فيه من خلال عمق الوعي الحاضر برؤية جوهرية لمستقبل الأمم. عند ذلك يكون سلاح الوعي هو الحاضن الأول له، والمدافع عن بقائه، وحمايته من القوى المعادية،  فيغدو حقيقة متجددة في حياة المجتمع وأفراده. إن الوعي الاجتماعي ضرورة حتمية لا يمكن أن يضعف ويتلاشى لأن غيابه يفقد الأمم شخصيتها ويعيدها إلى مواقع مستضعفة أمام الأعداء مما يؤدي إلى تدهور مواقفها، وانهيار صمودها، والوقوع في فخ الصراع والضياع. فالشعب إذا تاه عن انتمائه اندثر واضمحل. وهنا تبرز الأسئلة الأكثر أهمية في ظل الأزمة الراهنة: هل غياب الوعي عن بعض الضالين أوقع الوطن في أزمة لا نعلم مداها..؟ وكم نحن بحاجة للشعور بهذا الانتماء؟! ومتى يأتي وقت الخلاص..؟!

العدد 1140 - 22/01/2025