الشبيه المختلف
إذا كان للمصريين أن يفخروا ببناء الأهرامات وفن التحنيط، ولليونان أن يعتزوا بالفلسفة والحكمة والشعر (هوميروس)، وللبابليين أن يشمخوا بالحدائق المعلقة وللهنود أن يوزعوا الحكمة على الناس، وأن يتباهى الرومان بالخطابة وصياغة القوانين، وللفرس أن يتحدثوا عن السياسة وتنظيم الدواوين، فيحق للعرب أن يفاخروا العالم (بالقصيدة)، هذا الشكل الفني الشعري المحكم البنيان المكتمل المكتفي بانغلاقه على نفسه، هذا البناء الذي عاش ومازال حتى يومنا هذا يقاوم كل محاولات الخلخة والتجاوز.
ورث أبو تمام الشكل الشعري المكتمل للقصيدة العربية، بدءاً من تجربة الجاهلية المتطاولة في القدم حتى آخر إنجازاته، مكملة محاولات بشار بن برد آخر القدماء وأول المحدثين، ثم مسلم الذي أفسد الشعر وأبي نواس، وصالح بن عبد القدوس الذين حاول كل منهم بطريقته اختراق سلطة النموذج ممثلة بمفهوم عمود الشعر كما لخصها المرزوقي، وفي تجاوز منهج القصيدة العربية كما استقرت عليه حتى عصر أبي تمام.
تشكل تجربة أبي تمام الشعرية قطعاً في النسق الثقافي العربي، وليس قطيعة معه كما يحلو لبعض المعاصرين محمد بنيس وأدونيس، لأنه لم يخرج خروجاً مطلقاً لا على منهج القصيدة ولا على عمود الشعر، وإنما حاول أن يقدم تجربة مختلفة ومغايرة للمألوف (الشبيه المختلف)، فهو آخر السلسلة في مذهب البديع.. والبديع لغة تعني الصياغة على غير مثال أو منوال سابق، وهو خروج عن الثبات ومخالفة للقديم، هذا الخروج ناجم عن نظام شامل في تصورات ووعي متغير ينطوي على مستويات مترابطة لرؤى عن الإنسان والعالم والطبيعة والمجتمع، ولدته ثقافة تصل بين الشعر ومغامرة الفكر والفلسفة.. تفضي إلى الشك فيما هو قائم وتعيد التساؤل فيما هو مسلم به. فالشاعر لا يمكن أن يكون نسخة عن غيره، والشعر لون من الخلق المتجدد لا يتم إلا بوعي جديد، هذا الوعي الذي تشكل لدى أبي تمام هو محصلة تفاعل ثقافي، يوناني فارسي هندي شرقي أسطوري.
وبناء على هذا الوعي تفارق القصيدة مهاد الاسترسال للطبع، وتصبح نتيجة لمعاناة طويلة للفكر والقلب (ابنة الفكر المهذب في الدجى).. وصوب العقول (الطبع والصنعة) (والموازنة بين الطائيين)، لم يعد الشاعر يقبل كل ما يناجيه به طبعه. لقد تولد لديه هاجس نوعي جديد هو كيفية التعبير. بمعنى آخر برزت لديه بوعي مسألة الشكل فراح يزعزع الطريقة الشعرية الموروثة ويفكك أبنيتها المسبقة الصنع، ويشكك في مطلقية ثباتها وقابلية الصلاحية لديها لكل زمان ومكان.
أبو تمام ابن جيل جديد يحمل أفضل ما في القديم من خصائص، وأهم ما في الجديد من سمات التحول والتجاوز والانتقال، وهو ثمرة تحول نوعي في التكوين الثقافي بفعل التراكم الكمي الحاصل في المجتمع. فشخصية أبي تمام ليست إلا لحظة تبئير نوعي وانتقال من القديم إلى الجديد، الذي لا يمكن أن ينهض إلا على أساس من القديم نفسه. لأن الجديد يولد في رحم القديم، صحيح أنه ينفيه، ولكنه يقتضي وجوده في وقت معاً وفق قانون وحدة المتناقضات وصراعها، هذا القانون الذي حدسه أبو تمام بعفويته وسليقته قبل أن يكتشفه (هيجل) بقرون.
وفي شعر أبي تمام تطبيقات كثيرة لهذا القانون (التضاد):
ضوءٌ منَ النَّارِ والظَّلماءُ عاكفةٌ
وظُلمة منَ دخان في ضُحى شحبِ
فالشَّمْسُ طَالِعَة مِنْ ذَا وقدْ أَفَلَتْ
والشَّمسُ واجبةٌ منْ ذا ولمْ تجبِ
.. هكذا غادر أبو تمام السلالة التقليدية للشعرية العربية، دون أن يحدث قطيعة معها، ويمكن أن نطلق على تجربته (القطع المتصل) (أو التواصل والتفاصل).
أبدع أبو تمام أهم شعره في مناخ اعتزالي ساد منذ تولي المأمون، وامتد حتى نهاية عهد الواثق. وقد عاصر الكندي شارح كتاب أرسطو (الشعر)، هذا الجو بما وفره من حرية وتنوع ثقافي وغنى معرفي ساعد أبا تمام على النهوض بمهمته الرائدة في أجواء من حرية الرأي والفكر والتعبير والتسامح الديني والتعايش العرقي.
عاش أبو تمام شبابه في حضن سيادة الثقافة العربية الإسلامية وقدرتها على الامتصاص المعرفي، وإعادة إنتاج ما تتلقاه من منجزات الشعوب الأخرى، الثقافة العربية الإسلامية القرآن- الحديث السيرة، المذاهب الإسلامية، التيارات الدينية المرجئة- الجبرية، الأشاعرة، وكل المناظرات وحلقات المساجد، والكتب المترجمة، وعلماء الكلام، واللاهوت العربي، ممزوجاً بالثقافة اليونانية والهندية والفارسية مع الثقافة اليهودية والمسيحية. وحالة الانصهار والاختلاط العرقي وسيادة النزعة العقلية التي أشاعها المعتزلة. كل هذه العمليات المعقدة المتداخلة وجدت ذاتاً إبداعية التقطت جوهرها، وهو لحظة التحول والانتقال والتنوع والاختلاف، هذه الشخصية هي أبو تمام.. الذي هو بحق أفضل من يمثل عالمية الثقافة ووحدتها المبنية على أصول راسخة من الاختلاف والتنوع الخلاق والتخصيب الإبداعي، وعدم الإقصاء والبعد عن التهميش والاستعلاء. فكيف لا يكون أبو تمام الابن الشرعي لهذه العملية التاريخية الكبيرة؟ وهل من غرابة أن تكون هذه العملية نفسها بنتائجها وتفاعلها مع الذات الإبداعية للشاعر أبي تمام سر عظمته مما جعله شاعر الشعرية العربية، بقدرته على اختزان منجز عصره وتمثله لثقافته، وإعادة صياغته شعراً متفرداً؟ فما أنجزه المعتزلة عقلياً، جسَّده أبو تمام شعرياً.