الموت يغيّب شاعر الطفولة العربية بعد «رحلة شقية» عن عمر ناهز الـ92 عاماً

ودعت سورية صباح ثاني أيام عيد الفطر (الجمعة) شاعر الطفولة العربية سليمان العيسى عن عمر ناهز ال (92) عاماً في إحدى مستشفيات دمشق بعد معاناة طويلة مع المرض. ويأتي رحيل شاعرنا السوري الكبير في زمن سوري كارثي، زمن يرحل فيه الأطفال – الذين كتب لهم العيسى – بنيران الأزمة المشتعلة.

الناقد العراقي الصديق ماجد السامرائي كان أول من نقل لي خبر رحيل صديقه الشاعر، وكتب إثرها على جدار صفحته في موقع (الفيسبوك): (وداعاً شاعر الرحلة الشقية. ساعة طالعني هذا الصباح خبر رحيل الشاعر سليمان العيسى أسلمني إلى حالة حزن قاسية. فهذا الشاعر الذي رافقته كلمته علّمتني، وأنا بعد فتىً، معنى الحس الثوري، يستسلم للموت بينما سورية تحترق، وتحتاج منه إلى كلمة (لا) يقولها بوجه طغاة اليوم، كما قالها بوجه طغاة الأمس.. كنا، يا شاعري، نحتاج إلى تاريخ كتاريخك النضالي المشرّف يقول للنار المتدفقة من كل مكان إلى كل مكان: أوقفوا الحرائق والمجزرة.. فسورية وجدت للحياة لا للموت .. وداعاً شاعري الذي علمني أن الكلمة موقف.. أو لا تكون).

العيسى الذي عاش هزائم وانتصارات هذا البلد منذ ثلاثينيات القرن الماضي، حرك الشباب الوطني السوري والعربي بقصائده القومية في المظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء (لواء إسكندرون) ضد الاحتلال التركي وهو في ريعان الصبا. وواصل نضاله مع رفاقه ضد الانتداب الفرنسي بقصائده الثائرة في وجه المستعمر ومن ثم في وجه الطغاة ممن سلبوا الإنسان السوري أبسط حقوقه بالعيش حراً كريماً، فكان أن دخل السجن أكثر من مرة بسبب قصائده ومواقفه القومية.

العيسى ودرويش: وحدة الدم والمصير المشترك

لعل القدر الذي ربط بين مصير السوريين والفلسطينيين في هذا البلد النازف، أراد أن يصنع في مثل هذا اليوم حدثاً يؤكد وحدة المصير المشترك، ويترجم مقولة (سوري وفلسطيني واحد واحد)، فكان رحيل العيسى متزامناً مع ذكرى رحيل شاعر فلسطين الكبير محمود درويش قبل خمس سنوات في التاسع من شهر آب/ أغسطس 2008. درويش الذي قال في قصيدته (طوق الحمامة الدمشقيّ): (في دِمشْقَ:/ أَرى لُغَتي كلَّها/ على حبَّة القَمْحِ مكتوبةً/ بإِبرة أُنثى،/ يُنَقِّحُها حَجَلُ الرافِدَيْن). وكأن الموت بذلك أراد أن يقول للطغاة أيضاً: (سوري وفلسطيني واحد واحد).

ويوم سئل العيسى عن الراحل محمود درويش قال: (محمود درويش شاعر فلسطين الأول، صوت النكبة الأول، لا أذكر متى تلاقينا أول مرة، ولكني لا أشك أن اللقاء كان منذ زمن بعيد. أنا ابن اللواء السليب.. ابن إسكندرون، وهو ابن أرضنا المحتلة.. ابن نكبة العرب الأولى. كلانا من قافلة التشرد.. كنت من أبناء قافلة التشرد الأولى عام 1938 التي لا تزال مستمرة، على أرضنا العربية الممزقة، الباقية، (باد الغزاة وهذا الميت لم يَبِدْ). لا أذكر متى سألني: فلسطين أكثر حضوراً في شعرك

من بلدك الصغير لواء إسكندرون!  وأجبت يومئذ: (لقد ذاب الجرح الصغير في الجرح الكبير، أيها العزيز! ..، إنني كنت – وما زلت – أعد نفسي واحداً من شعراء الأرض المحتلة، التي حمل نبضها الأول محمود درويش).

نبوغٌ شعري مبكر

ولد العيسى عام ،1921 في قرية النُّعيرية – حارة بساتين العاصي – الواقعة غربي مدينة أنطاكية التاريخية على بعد عشرين كيلومتراً. تلقى تعليمه الأولي على يد أبيه المرحوم الشيخ أحمد العيسى في القرية، وتحت شجرة التوت التي تظلل باحة الدار، حفظ القرآن، والمعلقات، وديوان المتنبي، وآلاف الأبيات من الشعر العربي، ولم يكن في القرية مدرسة غير (الكُتَّاب) الذي كان في الواقع بيت الشاعر الصغير، والذي كان والده الشيخ أحمد يسكنه، ويعلّم فيه. وقد بدأ كتابة الشعر في التاسعة أو العاشرة. كتب أول ديوان من شعره في القرية، تحدث فيه عن هموم الفلاحين وبؤسهم. وحين دخل إلى المدرسة الابتدائية، وضعه مديرها في الصف الرابع الابتدائي مباشرة. وقد أكمل دراسته بين اللاذقية ودمشق، ودرّس في دار المعلمين ببغداد، وهو من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام 1969.

وكان الشاعر الراحل قد اتجه إلى كتابة شعر الأطفال بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967. فكتب العديد من القصائد التي تجسد معاناة الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضته ضد الأطماع الصهيونية والعنصرية. ليصبح واحداً من أهم شعراء الطفل في الوطن العربي، وله ما يربو على ال 50 كتاباً ضمن (أدب الطفولة)، كان أشهرها مجموعته الشعرية (ديوان الأطفال)، الذي يضمّ قصائد ونصوصاً يحفظها أغلب الأطفال العرب، خصوصاً أنّ معظمها كان منشوراً في الكتب التعليمية لعدد من البلدان العربية. وقد أعطى العيسى في قصائده في هذا الديوان اهتماماً بالصورة الشعرية الجميلة التي يسهل ترسيخها في ذهن الطفل، والتي يستقيها الشاعر عادة من واقع الأطفال، أو من أحلامهم وآمالهم.

ومن منّا ينسى قصيدته الرائعة: فلسطين داري/ ودرب انتصاري/ تظل بلادي/ هوى في فؤادي/ ولحناً أبياً/ على شفتيا/ وجوه غريبة/ بأرضي السليبة/ تبيع ثماري/ وتحتل داري/ وأعرف دربي/ ويرجع شعبي/ إلى بيت جدي/ إلى دفء مهدي/ فلسطين داري/ ودرب انتصاري.

من أبرز أعمال الراحل (الأعمال الشعرية) التي تقع في أربعة أجزاء طبعتها المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام ،1995 وكتاب بعنوان ((على طريق العمر) معالم سيرة ذاتية) طبعته المؤسسة العربية كذلك عام 1996. و(الثمالات) بأجزائها الثلاثة أصدرتها الهيئة العامة للكتاب في صنعاء 2001. إضافة إلى (الكتابة بقاء)، و(الديوان الضاحك) عام 2004 و(قصائد صغيرة لي ولها)، و(كتاب الحنين) و(ثمالات5) و(باقة نثر). ومن أهم أعماله الشعرية والنثرية للأطفال (فرح للأطفال)، ومسرحية (الشيخ والقمر) و(أغاني النهار)، كتاب (الأناشيد)، و(احكي لكم طفولتي يا صغار)، و(وائل يبحث عن وطنه الكبير)، و(علي بابا والأربعون لصاً)، و(علاء الدين والفانوس السحري).

كما شارك الشاعر الراحل مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض في ترجمة عدد من الآثار الأدبية، أهمها آثار الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية. وكان أن حصل في تشرين الأول/ أكتوبر على جائزة »لوتس« للشعر من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا ،1982 وفي عام 1990 انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق، وفي عام 1997 منح الدكتوراه الفخرية من جامعة صنعاء، وفي عام 2000 حصل على جائزة الإبداع الشعري، مؤسسة (البابطين).

العدد 1140 - 22/01/2025