نظافة الساحة وقذارة العقول
تتلامح أمام عينيّ صور تكاد تتغلغل في ذاكرة أي شخص يرى ويقرأ ما يجري في الساحات والعقول. وما جرى يوم الاحتفال بالانتصار على الفاشية في الذكرى السبعين في الساحة الحمراء يُفْرِح القلوب ويفتح نافذة جديدة تدخل منها نسائم مُنْعشة للقلب والروح.. وعلى أساس ذلك يمكننا أن نستعيد ثقتنا بالمواطن السوري (المهاجر أو المهجّر أو من المواطنين الذين ما يزالون يحتفظون بجدران منازلهم وعتبات بيوتهم)، بما يجري أو بما يحدث كل يوم من مفاجآت وما كتبت الصحافة عنه يوم الاحتفال بالانتصار على الفاشية..!
لقد شارك احتفالات الشعب الروسي مجموعة من المواطنين السوريين المغتربين .. وقد ترك الخبر الذي قرأته وَقْعَاً وأثراً كبيراً في نفسي، نقلته إلى بعض الأصدقاء ليس لأنه خبر فيه غرابة أو عجائبية، بل بسبب الوعي والنضج الثقافي في الحفاظ على البيئة، والخبر الثاني المقابل له المتناقض والمتضاد معه بشكل لا يصدق..!
احتار أحد المدخنين أين يرمي عقب سيجارته في الساحة الحمراء؟! قال لزميله: أخجل أن أرمي وردة في هذه الساحة التي ما يزال قائد ثورة أكتوبر يسكن فيها ويشاهد جميع الاحتفالات منذ رحيله عام 1924. وأنا أقول رغم أنني لم أزر موسكو ولم أعرف ساحتها إلاَّ بالصورة: إنها تشبه خدّ صبية جميلة.. احتفظ الرجل بعقب سيجارته بكفّه وضغط عليها خوفاً أن تفلت وتسقط وتلوث الساحة، وخجلاً من الناس الذين سينظرون إليه بنظرات مريبة ومواربة.. داعبها الرجل بأصابعه حتى غدت ليّنة مثل قطعة عجين من الطحين الأبيض وليس أسود كخبز هذه الأيام..!
فشلت محاولاته المتكررة وتقلَّبت أفكاره بحيرة بين أن يرميها في الحديقة ويلوث الأعشاب، وتتسمّر عيون الروس في هذا المشهد الغريب عنهم، أو يظل محتفظاً بها حتى يجد سلّة مهملات ويتخلّصَ من هذا الكابوس اللعين.
صمّم الرجل أن يحافظ على النظافة باعتباره مهاجراً الى موسكو ويعمل بالتجارة منذ عقد ونيّف.. ولا يريد أن توجه إليه أصابع الاتهام بأنه شخص غير حضاري. وقرَّر أخيراً أن يبلع عقب السيجارة، ففعل وارتاح وتابع مشاركته في الاحتفال.. ويكون بذلك قد وفَّر وجبة غداء رغم صعوبة البلع وعسر الهضم وفقدان الشهية..؟!
المفارقة تتسع أفقياً وشاقولياً في عصر ثورة الاتصالات التي حوَّلت القارات الخمس إلى قرية صغيرة، بين (نادرتين) . وهذه الحكاية البسيطة يمكن أن يصفها بعض المتخلفين ويقول: إن الحفاظ على البيئة غير ضروري .. المهم أن تمتلئ جيوبنا بالدولار إذا كانت البيئة نظيفة أم وسخة..!
المفارقة فيها من العجائبية ما يذهل أو يدهش العقل البشري، وهي كما قال صديق لي قَدم من منطقة يسيطر عليها الإرهابيون .. قال الصديق: إنَّ رجلاً وزوجته من تلك المنطقة فتّشا على أحد حواجز الشيشانيين. وطلب المسلح من الزوج أن يكشف عن وجه زوجته ليراها ويتأكد أنها امرأة وليس رجلاً متخفياً، لكن الزوج رفض الطلب واشتكى للمسؤول «ومشي الحال». والمسلح يعرف ب (راعي الغنم)، أخذ الهوية ووضع لاصقة سوداء على صورة المرأة كي لا يراها الرجال .. أليست هذه حكاية سيسجلها التاريخ؟ لم نسمع أو نقرأ عن فساد العقول بهذا الشكل المظلم حتى في القرون الظلامية ..؟ ولم يحدث ما يشبهها في التاريخ البشري رغم أتها تعدّ بسيطة جداً..!
هاتان مفارقتان تحملان من الدلالة أطناناً وصفحات من إشارات التعجب..!؟ ومن يعش أكثر ير أكثر ..! والتاريخ سيحتفظ بألوف صفحات التخلف ودور العقول المتخلفة، المغلقة، المسكونة بالغيوم السود، الأشد ظلمة من قلوب من يأكلون أكباد البشر ولحومهم..؟