مجرّد حبر على ورق..!
أنا حريص على أن أتحايل على الأزمات مع أننا لسنا معتادين على تلك المنغصات التي تسرق البسمة من على قارعة وجوهنا وتدعنا نجلس شاردي الذهن ومفكرين فيما سيأتي.. كيف لا والجميع ممن يعرفني لديه فكرة عن عمليات اللّف والدوران على الأزمات بطريقة صحيحة وصحيّة أيضاً، إذ أعمد في بداية كل شهر إلى شراء فاتورة شهرية لحاجات الأسرة من أحد محلات الجملة، وهنا أتساءل عن هامش الربح الكبير بين محلات الجملة ومحلات المفرّق!!
عندما اصطنعوا أزمة المتة – لا أعادها الله علينا – كان لدي في خزانة المونة أكثر من سبع علب متة، وهنا بالطبع ليس المهم ما وفّرته بل المهم أن المتة لم تنقطع أبداً من البيت وبقيت تحلّي صباحاتي بطعمها المر. وعندما هجم الشتاء وباتت السيارات تصطف بطوابير من أجل المازوت، وهي تعيدنا بالذاكرة إلى أيام القطارات التي اشتقنا لقرقعتها، كنت قد احتطتُ منذ الصيف بكمية من المازوت تقدّر بعشرين لتراً تقينا البرد ريثما تأتي التعليمات المقدسة بتعبئة المازوت للمنازل، وبالطبع وما تعلمون فإنّ التعليمات تأتي بعد أن يكون قد مضى من الشتاء نصفه.
وعندما بدأ تقنين الكهرباء ولم نعد نستطيع متابعة ما تم دبلجته من مسلسلات كانت وسائل إعلامنا وفضائياتنا تتهافت على شرائها ودبلجتها وفرضها عينا بالقوة، مع الإشارة إلى أن هذه المسلسلات التي يسمونها في بلد المنشأ بمسلسلات الصابون، لا علاقة لنا بها لا أمة ولا تاريخاً ولا ثقافة، بل هي حالة عشق فجائية عصفت رياحها بنا وهبت علينا من الشمال، وهنا وجدت ضالتي في الفانوس القديم الذي كان جدي العاشر يحكي قصص الزير سالم وتغريبة بني هلال على ضوئه واهتزاز عمود الدخان المندفع من فتيلته إلى الأعلى.
قد يقول قائل بأنني أطلت الحديث وأنني أخلط الحابل بالنابل وأنني ابتعدت عن صلب الموضوع، وأنا هنا أطمئن القارئ الكريم بأنني سأبدأ بسرد ما جرى معي دون مواربة أو كذب.. فاسمعوا يا سادتي الأكارم:
بعد القرار الذي قضى بتوزيع التموين العائلي كل ستة أشهر مرة في العام حملت دفتر التموين العائلي وباكراً قصدت إحدى المؤسسات الاستهلاكية في مدينتي حيث أسكن، ولحسن الحظ لم يكن قد سبقني إلى هناك أكثر من خمسين شخصاً بعد المئة فحمدت الله على ذلك وحشرت جسدي بين تلك الأجساد التي تفوح منها رائحة العوز والحاجة وأشياء أخرى، وكعادتي بدأتُ الثرثرة مع بعض الحاضرين حول القرارات – الصميدعية – التي طالعتنا بها حكومة الأزمة بين يوم وليلة ومن ضمنها قرارها الأخير القاضي بصرف التموين العائلي الذي يتضمن الأرز والسكر لمدة ستة أشهر، وعن السلفة التي على التاجر الذي كان يبيع في الحارات الشعبية أن يدفعها والتي تصل إلى 400 ألف ليرة أحياناً، وأرجو لفت انتباهكم إلى أن هؤلاء التجار في الأرياف كانوا يخففون من الضغط على مراكز البيع في المدينة فضلاً عن تخفيف المصاريف بالنسبة للمواطن.
كنت أول من قطف ثمرة هذا الازدحام ولا أخفيكم عليكم أنني قبضت على فكرة مقالتي التي هي بين أيديكم الآن وقلت: إن لم أحظ بحصتي من الأرز( المسوّس) والسكّر الذي أحمد الله أن السوس لا يمكن أن يدخله وإلاَّ لكان شبيهاً بشقيقه الأرز، فقد ألقيت القبض على الفكرة ولن أدعها تخرج سواء تلطخت بالسكر والأرز أم لم تتلطخ.
المهم بدأ الحشد يكبر ويكبر كالأزمة التي تعصف بنا، وبينما نحن نحلم بكثير من الأرز والسكر والبطاطا والبندورة والخس والخيار و(الفقّوس) ومراقبة الأسواق والتخفيضات على الأسعار التي عادت للجنون بارتفاع الدولار ولم يصبها العقل بعد انخفاضه، وصل الموظف المسؤول وبعد عملية الدفش والدحش والطحش استطاع الموظف مع مرافقه الوصول إلى الباب وفتحه، وهنا بدت لنا أكياس الأرز والسكر مستلقية غير آبهة بكل هذا الضجيج، في حين وقف الموظف كالطاووس ليزف لنا تحذيره من أنه لن يوزّع أي حبة أرز أو سكر إلا إذا وقفنا بالدور كما وصلنا، وكأنه كان يريد أن يشغلنا كي لا نشغله (كما كانوا يقولون لنا أيام الجيش).
بدأنا الشجار وكاد الأمر يصل بنا إلى عراك بالأيدي والأرجل والبطاقات التموينية أيضاً لولا أن رنّ الهاتف، فساد الصمت واتسعت العيون باتجاه سمّاعة الهاتف، وكنّا نمنّي النفس أن تكون الأصوات والصرخات التي عمّت المكان قد وصلت إلى آذان المستوى الأعلى فبادروا بالاتصال للاستفسار عن كل هذا الضجيج، لكن الموظف المذكور بعد أن وضع سماعة الهاتف مكانها قام بإبلاغنا بأنه مطلوب لاجتماع ضروري وفوري، وبالتالي سيؤجل التوزيع إلى اليوم الثاني وقد كلّفني بتسجيل الأسماء حسب الوصول.
في اليوم الثاني كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد الظهر والموظف لم يعُد ونحن نتكوّم على خيبتنا، فيما بدأت بعض الأصوات تعلو من هنا وهناك تسب وتشتم الدولار والمتسببين بحركاته غير المرغوب فيها، وغادر المكان قسم من الحاضرين بعد أن رشقني بنظرات تفوح منها رائحة السوس المحلّى بعرق الانتظار، وبسبب الجوع الذي فتك بنا حملنا دفاتر التموين وعدنا إلى منازلنا، بعد أن أعرب البعض عن فرحتهم بنجاحنا في تسجيل الأسماء التي لن تقدّم ولن تؤخّر عندما سيحين موعد التسليم، مثلها مثل الكثير من المطالب والصرخات والقرارات التي بقيت في أدراج المسؤولين حبراً على ورق.. وفهمكم كفاية!!