الأزمة الاقتصادية الكبرى 1929… كي لاننسى!

إنها الذكرى الـ87 للانهيار الكبير الذي هدّد قلعة الرأسمالية العالمية.أيام لاتنسى..وساعات متتالية من الانهيارات أدت إلى كوارث أصابت الاقتصاد الأمريكي والعالمي، ونبهت الجميع إلى أن الأزمات التي توقعها كارل ماركس ..والكامنة في جوهرالنظام الرأسمالي ذاته، ستؤدي إلى انهيار الرأسمالية برمتها..

نيويورك تستعد لمساء عادي … العمال والموظفون انهوا يوم عمل آخر … المطاعم وأماكن اللهو تتهيأ لفترة مسائية … مشردو نيويورك اكتفوا من تجوالهم النهاري وتقاطروا إلى سراديب الشوارع الكبرى لقضاء الليل، إلا أن (وول ستريت)، وقبل ساعة من إغلاق البورصة ، كانت على موعــد مع دقائق قاتلة قادت أمريكا وأوربا والعالم بأسره إلى أزمة اقتصادية هي الأعنف منذ أن دكت الصناعة قلاع الإقطاع وتحولت الرأسمالية إلى تشكيلة اجتماعية سيدة .

لقد بدأت الكارثة مساء الثلاثاء 22/10/1929 في بورصة (وول ستريت) بعرض فجائي لكميات هائلة من الأسهم والسندات ، وفي اليوم التالي عُرض ستة ملايين سند في السـوق ، وفي يوم الخميس عُرض ثلاثة عشر مليون سهم .. فسيطر الخوف .. وعمّ الذعر ، وبدأت الأســهم تفقد حتى نصف قيمتها في يوم واحد .

لقد تدخل كبار أساطين المال ( روكفلر – مورغان ) في محاولة منهم لإيقاف حركة البيع ، لكن العرض توالى .. والأسعار تقترب شيئاً فشيئاً من الانهيار الشامل ، وفي 29 / 10 بيع ستة عشـــــــــــر مليون سهم ، وبدأت أزمة اقتصادية كبرى طالت تداعياتها العالم بأسره ، لقد أفلس عشـرة آلاف مصرف، وارتفعت الخسائر الصافية للشركات المساهمة الأمريكية إلى 2110 ملــــــــيون دولار ، وازدادت إلى حد مخيف نسبة البطالة في الشركات الصناعية الأمريكية، إذ انخفض عـدد العمال من 8830000 عام 1929 إلى 5441000 عام ،1932 لقد ساد هيجان اجتماعي لم تعرف أمريكا مثيلاً له ، ففي طبقات المجتمع المخملية ازدادت عمليات الانتحار ، ولـدى الشغيلة كان الحصول على أي عمل أو تأمين وجبة مجانية هدفاً صعب المنال.

انتقلت الأزمة إلى أوربا .. ، ففي ألمانيا أفلست 4500 شركة، وفقدت 1590 شركة مساهمة في الصناعة والمناجم 983 مليون رايخمارك ، وفي إنكلترا هبط معدل الأرباح 37% بين عامي 1929-،1932 وفي إيطاليا كان ميزان 2797 شركة مساهمة سلبياً، أما اليابان فقد انخفض معدل الأرباح فيها بنسبة 45% ، ولم تستطع الزراعة النجاة … فهبطت قيمة الإنتاج الزراعي في أغلب البلدان بنسبة 50%.

تدخّل الدولة

كان من المستحيل على الحكومات أن تترك القوانين الشهيرة لليبرالية ( دعه يعمل.. دعه يمر ) أن تنتج آثارها، فذلك يعني المزيد من المآسي والفواجع الاقتصادية والاجتماعية ، ففي كل يوم إفلاسات جديدة ، ومصانع كبرى تقفل أبوابها ، وجيش العاطلين بدأ يتحرك مهددا استقرار والهـدوء في النظام الاقتصادي برمته ، فلجأت الحكومات إلى مجموعة من التدابير الإسعافية أولاً، ثم تدخلت بشــكل فعّال أطاح إلى غير رجعة بمبدأ حيادها، بمجموعة من الإجراءات كان من أهمها :

1- إقراض الشركات الصناعية عبر مؤسسة (إعادة الهيكلة المالية) بمبالغ كبيرة وصـلت إلى عشرة مليارات دولار، لدفع عملية إعادة الإنتاج .

2- تحويل الدين الخاص إلى عام، عن طريق شراء الأسهم في محاولة لرفع أسعارها في مختلف النشاطات الاقتصادية الرئيسية كالصناعة ، وسكك الحديد .. والمصارف وشركات التأمين.

3- إغلاق الأسواق الوطنية لمنع تدفق السلع الأجنبية ، فنشأت حركة حماية لا مثيل لها، إذ صدّق الكونغرس على التعرفات الجمركية الجديدة التي رفعت ما يقارب 900 رسم جمركي ، واتبعت الدول الأخرى السياسة نفسها وارتفع في الدول الصناعية الكبرى معدل الحماية الجمركية من 5 % عام 1929 إلى 23 % عام 1936.

4- إتلاف المخزون ، عن طريق شراء الفائض من المنتجات المختلفة للإقلال مـن العرض وإبقاء الأسعار مرتفعة، ومن ثم إتلافها لتبدأ بعدها دورة جديدة، إنتاج ..مخزون.. شراء من قبل الدولة .. إتلاف

5- لقد نبهت هذه الأزمة إلى ضرورة قيام اتحادات صناعية متخصصة لا تترك للمنتجين الأفـراد حرية التأثير في السوق بشكل منفرد حفاظاً على كميات الإنتاج ومستوى الأسعار ، وشيئاً فشيئاً أصبحت تلك الاتحادات تتحكم بالصناعة الثقيلة والمتوسطة ، لا في أمريكا وحدها ، بل في كل الدول الأوربية ، وقد شجعت الدول عملية الحصر هذه خوفاً من أزمات جديدة ، وبدأت سياسة توجيه الاقتصاد ، وأعاد كبار الرأسماليين النظر بمفاهيم المذهب الحر ، فالعفوية هنا تعني الهلاك ، وأصبح مفهوم توجيه الاقتصاد مقبولاً لديهم .. بل مطلوباً، مادام تدخل الدولة سيعيد عجلة النظام الاقتصادي برمته إلى الدوران ، وهكذا بدأت إجراءات جديدة بمبادرة من الدولة ، إنها سياسة الأشغال الكبرى : فقد عمدت الولايات المتحدة وأوربا إلى إطلاق مشاريع عملاقة لا يؤدي العمل فيها إلى زيادة العرض في السوق كشق الطرقات وإقامة السدود والجسور، وهكذا تنشّط الطلب على مستلزمات الأعمال من جهة ، وترسل إلى جيوب العمال كتلة نقدية تعمل على زيادة الطلب على المنتجات الأساسية .

تلك كانت أهم الإجراءات التي قامت بها الدول في مواجهة الأزمة الاقتصادية ، ورغم نجاحها في التخفيف من آثار الانهيار ، إلا أن إجراء آخر كان يمثل الحل الأمثل في تلك الحقبة ، إنها الصناعة الحربية … زيادة نفقات التسلح، التي قادت بعد ذلك في كل من ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى حرب كونية أبادت البشر والحجر .

*****

1- راجع مجلة عصبة الأمم – الحالة الاقتصادية – عام 1933

2 – راجع هنري كلود – من الأزمة الاقتصادية إلى الحرب العالمية الثانية – دار القلم 1954.

 

العدد 1140 - 22/01/2025