الإيطالي روداري وعوالم الطفولة الساحرة … مقاربة لقصة «مغامرات تونيتو الخفي»
لا يستطيع ارتياد عوالم الأطفال الساحرة إلا من خبر الطفولة وعايش الأطفال، واحتفظ بجانب من طفولته حياً وحراً. ولا يجرؤ على كتابة إبداع يمتع الأطفال إلا من خبر طبيعتهم واهتماماتهم وألعابهم وأسرارهم الصغيرة ومرحهم الفريد واحتجاجهم المختلف.
وجياني روداري مبدع إيطالي وقاص ماهر، وخبير بأحلام الأطفال ومشكلاتهم في الأسرة والمدرسة والمجتمع، ويُبرز في حكاياته إحساسه بهم ومشاركته لهم في اللعب والفرح والحزن والإحساس بالوحدة، وما الإبداع إذا لم يبرز مثل هذه الجوانب في حياة الطفل السريعة الملونة؟
جدد روداري فن القصة الطفلية، ومزج الصور الخيالية المبتكرة بصور من الواقع القريب، واستخدم دعاية ذكية منحته حرية السخرية من الرؤى الضيقة والنوازع الشريرة، وقدم في حكاياته وقصصه الطويلة شخصيات محببة، تستخدم ذكاءها لمواجهة المشكلات، واستخدم لغة رشيقة سلسلة بعيدة عن التصنع أو التبسيط، وسخر من التحذلق والادعاء والغباء والمظاهر الفارغة، ووجه نقداً لاذعاً للمظاهر الاستهلاكية التي كبلت حركة الأطفال وزيفت الوعي العام.
وقد ترجمت أعمال روداري إلى لغات عديدة، وترجم عدد من أعماله إلى اللغة العربية من بينها: حكايات على الهاتف أساطير رومانية عشرون قصة وقصة.
وصدرت له مؤخراً قصة طويلة عنوانها (مغامرات تونينو الخفي، ترجمتها إلى العربية غريتا سمعان ونشرتها وزارة الثقافة بدمشق عام ،2012 وقدم لها روبيرتو بيوميني.
تتحدث القصة عن حلم الحرية والشفافية والتخفي لدى الأطفال، الذي يمكنهم من فعل ما يريدون، بعيداً عن رقابة الأهل أو الكبار وأوامرهم ونواهيهم، وواجباتهم التي تفرض دون اعتبار لحاجة الطفل إلى اللعب، والحنان والتصرف بعفوية، والاحتفاظ بأسراره الصغيرة.
تونينو دي روزا واجه وضعاً صعباً في المدرسة والبيت في اليوم الأول الذي تلا عيد مولده العاشر: إذ انتظرته مسائل حسابية تحتاج إلى حل، وصفحات طلب منه حفظها، وأسئلة يوجهها الأستاذ إليه في بداية كل حصة. كما فوجئ بتحذيرات أمه في عيده، إذ قالت له: (الحياة ليست أفراحاً فحسب كأعياد الميلاد وأعياد الاسم، وليست قوالب حلوى وهدايا) ص 7.
وعند عودة تونينو من المدرسة مرهقاً، كذب على أمه بأن لا وظائف لديه، وغادر إلى السينما بصحبة أبيه لحضور فيلم (نسر العاصفة) يتحدث عن الهنود الحمر، وفي اليوم التالي تمنى أن يغدو غير مرئي، في رداء الضباب، وفوجئ بتحقق أمنيته، إذ لم يلحظ الأستاذ وجوده وهو يُجري التفقد، رغم جلوسه في المقعد. وطلب من زميله كاستيللي الملقب (أسود أبيض) أن يسأل عن حاله. (ص 12-13).
بدأت مغامرات تونينو الخفي من غرفة الصف: إذ عابث زملاءه، فشد شعر كاستيللي، لكن الأخير لم يكتشفه، واستدار إلى الخلف، واتهم زميله موتا الأكول المتلهي بعلكة النعناع. ثم شد تونينو شعر باولو باربي الملقب (تشوفو)، فاتهم باولو زميله ريفيللي الذي كان ينقب أنفه. وشد تونينو شعر معظم زملائه، وأثار فوضى في الصف، ثم أدار السبورة على محورها وأثار دهشة التلاميذ وحيرة المعلم الذي اضطر إلى إيقافها، متهماً أحد التلاميذ بهذه المزحة الغبية، وهدد بحبس الجميع إن لم يعترف الفاعل بذنبه. (ص 25).
وتوالت مغامرات تونينو بعد خروجه من غرفة الصف، إذ اصطدم بالبواب دون أن يلحظه، وجلس في الحافلة دون أن تراه السيدة التي لم تستطع الجلوس في المقعد، وأثارت جدلاً حول وجود أشباح في الحافلة، وأخذ حبة كستناء مشوية من البائعة، فاتهمت البائعة زبوناً آخر بسرقة بضاعتها ص،37 وجرى لغط وتقدم المحاسب باللوتي، ولأنهم كانوا يتكلمون جميعاً في آن واحد لم يكن مفهوماً كيف جرت الأمور (ص 39).
كان تونينو يود أن يعترف بدعابته للبائعة، ولكنه لم يفعل خشية من العواقف، وقال: ما أصعب قول الحقيقة في بعض الأوقات. (ص 42).
ثم صادف الصبيان والفتيات لدى انتهاء الدوام عائدين إلى منازلهم، فشد ضفائر بعض الفتيات، ولكنه ظل مشغولاً بأمر الوظائف التي قررها الأستاذ، وكان زملاؤه في شعبته (ب) آخر الخارجين، وسمع (أسود أبيض) يطلق صرخة مثل طرزان، إذ لكل شعبة صرختها الخاصة، وكانت الشعب تبدو لدى خروجها من المدرسة مثل قبائل الغابات (ص 47).
تضايق تونينو كثيراً حين نادى على زميله (أسود أبيض) ولم يسمعه، وتساءل: ما الحلاوة في أن نكون غير مرئيين؟ (ص 53). ولم يلحظه أحد في الطريق، وفي البيت لم تحس به أمه، ولم يره أخوه روبيرتو الصغير، وحين انتقل إلى فناء العمارة، رأى الأولاد مجتمعين يتحاورون ويختلفون ويتصالحون فحسدهم، واكتشف وهو داخل سياج حديقة العمارة أن أبشع شيء في الوجود هو الوحدة.. وأنه لكي تكون سعيداً فأنت بحاجة إلى الآخرين، وانتابته أفكار سوداء مثل العصافير البشعة أو الغربان ص ،63 ثم سمع صوتاً خلفه يناديه، وكان صوت باولا الطفلة الوحيدة مثله، ودعته إلى بيتها، وأطعمته شطائر أعدتها أمها، دون أن تلحظ الأم وجوده، وأيقظته باولا من حيرته، حين تمنت أن تكون غير مرئية مثله لتقوم بأشياء يحظرها الكبار على الصغار.
وأظهرت له جوانب من نظرات الكبار المتخلفة إلى الصغار، إذ يستمتعون بالصراخ في وجوههم، ويجدون في الصراخ على الصغار تسليتهم المفضلة، وهمست له قائلة: أكاد أكون غير مرئية لأنني ألعب وحدي. (ص 69-70).
وحلت باولا مسألة الحساب الغبية، وعلقت على ما تضمنته من أرقام غير واقعية قائلة: لم أر حماقات أكثر مما في مسائل المدرسة، واقترحت أن تكون المسألة متضمنة أشياء هامة مثل النقاشات التي تدور بين الوالدين في المنزل آخر الشهر. وشعر تونينو برغبة حقيقية في حل مسائل حقيقية مثل تلك التي يحلها الأهل (ص 77).
ولاحظ تونينو أن أم باولا رأته، وسرها أن تجد زميلاً لابنتها، ولم تستفسر من باولا عنه، لأنها تعلم أن للأطفال أسرارهم الصغيرة، وهم يتكتمون عليها، ولا يفشونها لأحد (ص 82). كما فوجئ حين عاد إلى منزله أن أحداً من أفراد الأسرة لم يغضب من تأخره، وانصب اهتمامهم على أنه عاد سالماً. وحين اتصل بزميله (أسود أبيض) يسأله عن الوظائف التي قررها الأستاذ، أبلغه أن موضوع التعبير هو: (الحفر ملأى بالعبر)، وقال مداعباً: ما دمت مريضاً فأنت تملك تبريراً مقنعاً مثل كل مرة.
واكتشف تونينو في خاتمة المطاف أن أمنية التخفي ليست سارة أو نافعة إلى هذا الحد الذي تصوره، وأن الأهم والأجمل أن نكون مجتمعين بكثرة، في المنزل والمدرسة، وأن نعمل الأشياء متعاونين، وأن أبشع شيء أن نكون وحيدين). (ص 86).
جمال الحكاية تبرزه مجموعة القيم التي نثرت في ثنايا الأحداث والمشاهد المتسارعة التي لم تتعد ساعات نهار واحد، ومر مروراً سريعاً على المدرسة والحافلة والشارع، وعاد إلى المنزل مع عودة التلاميذ من دوامهم، ولم يلحظه أحد. وهذه القيم ركزت على الصداقة والتعاون والتعاطف مع الآخرين، ولفتت إلى أهمية الملاحظة الدقيقة للأحداث، وإلى دور النقد في تصويب النواقص في آراء الكبار ومناهج المدرسة، وفي علاقات البشر بعضهم ببعض.
ولفتت القصة إلى حب الطفل للتفرد والتمرد، وميله للعب والدعابة، كما أشارت بطريقة ذكية إلى تأثير الأفلام السينمائية والتلفزيونية على سلوك الأطفال عبر الإشارة إلى الفيلم الأمريكي (نسر العاصفة) الذي يدور حول قبائل الهنود الحمر. ومعروف أن أفلام العنف الأمريكية (رعاة البقر) قد غزت أوربا والعالم، ونشرت ثقافة خطيرة وغريبة على القيم الأخلاقية التي أعلت من شأنها الحضارات عبر قرون.
سلط جياني روداري الضوء الكاشف على نظام التعليم التقليدي الأوامري التلقيني، وإلى واقع الطفولة في عالم متسارع يستهلك وقت الناس ويبلد أذهانهم ويضللهم، ولفت إلى حاجة الأطفال إلى الحوار واللعب والتعاطف وبعض الحرية في أن تكون لهم أمنياتهم الغريبة وأسرارهم الصغيرة.
وقد وفق المبدع في وصفه البارع للتفاصيل، وفي تقديم صور تغني خيال الأطفال، وتمكنهم من رصد مظاهر الجمال في الطبيعة والبشر وفي محيطهم، وتجنب تقييد الشخصيات بأي فعل أو رد فعل مصطنع، وأظهر تمكناً من فهم عالم الطفولة وخفاياه المدهشة.