أعراس الذاكرة

حين قرر جارنا أبو سطام تزويج ابنه البكر سطام المختص بتربية الحمام، لم يكن قراره هذا وحياً يوحى، أو مطالبة من ابنه سطام الذي التوت رقبته وزاغت عيناه وهو يلاحق بهما طيور الحمام السارحة في سماء المدينة، ومكان الحكاية وزمانها طبعاً هو دمشق قبل الحرب، حين كانت السماء خالية من القذائف والدخان وحكراً على الطيور والزرقة وطائرات الأطفال الورقية.  اتخذ الرجل قراره  بعد أن لاحظ أن بعض اهتمام (العجي)، كما كان يسمي ابنه سطام، قد انتقل من طيوره ال (قرباطي، بايملي، شيخ عشري..) إلى مراقبة الجارات اللاّتي ينشرن غسيلهن على السطوح المجاورة أو على شرفات منازلهن، بدليل سهوه المتكرر عن الرصد والمتابعة، الأمر الذي كلفه خسارة المزيد من الطيور والدخول في شجارات لا تنتهي مع زملاء المهنة الذين التقطوا الطيور وأنكروا كعادتهم وجودها لديهم، كما لو أنها سلطة استبدادية والطيور معتقلون لديها.. وبدليل استعماله للمرة الأولى الجيل لتثبيت شعره، وشرائه شفرات حلاقة يحك بها وجهه الخالي من الشعر لتسريع نمو ذقنه، تقليداً لرفاقه الشباب الذين سبقوه إلى اكتشاف هوس آخر غير الحمام.

أقيمت الأفراح والولائم سبعة أيام بلياليها في الحارة، بعد أن قامت كتائب الحميماتية بالتنسيق مع أبناء عمومة سطام وأصدقائهم بإغلاق الشارع من الجهتين أمام السيارات، ونصبوا مكبرات الصوت وعلقوا حبال زينة موشاة بورق ملون وبوالين وصور وأدعية وآيات، وعاشت الحارة المسكينة كوكتيل عراضات ودبكات وأغاني من أبو عبدو الطنبرجي إلى آخر صرعة تقدمها لنا فضائيات البورنو كليب، وكأننا ب (حميماتيي) الشام قد هبوا هبة رجل واحد لإحياء عرس زميلهم المخضرم سطام بالتعاون مع العاطلين عن العمل الذين كانوا يزدادون عدداً وعدة رغم إنكار المسؤولين الذين كانوا يقدمون أرقامهم المقننة عن نسب البطالة والفقر..

ومن محاسن الصدف أن العرس الأميري تزامن مع امتحانات الجامعة والشهادات، مما أجبر بعض سكان الحارة على المغامرة بإغضاب أبي سطام وجماعته، والشكوى إلى مخفر الشرطة القريب والمسؤول افتراضياً عن أمن المواطن وأمانه وراحته. بعد أن حاولوا عبثاً فتح حوار مع أبي سطام لتأجيل الموضوع،  ثم لجؤوا إلى وجهاء الحارة الذين ينتمون إلى عشيرة أبى سطام، وكانت النتيجة نفسها: روحوا بلطوا البحر.. العرس لن يتوقف، وأصوات مكبرات الصوت لن تخفض، والعراضات لن تُقنَّن، وكال بعض الناطقين الإعلاميين باسم العشيرة تهماً خطيرة للمعترضين، منها أنهم متواطئون مع عشيرة منافسة وأنهم طابور خامس ومؤامرة..

ويبدو أن أبو سطام كان قد أقنع جماعة المخفر بالتطنيش عن العرس قناعة راسخة لا تهتز.. إذ إن المساعد المناوب في المخفر استمع إلى شكوى الوفد الذي فوضه أهل الحي بالشكوى وزودوه بعريضة عليها أسماؤهم وتواقيعهم، ثم قال لهم: الأعراس ليست ممنوعة بل إن الدولة تشجع المواطنين على الزواج وزيادة النسل.

وحين تحدث الوفد المفاوض عن عدم وجود ترخيص للحفلة، وأن الدولة لا تسمح بأي تجمع يفوق ثلاثة أشخاص دون ترخيص، فكيف بهذا الجيش العرمرم من المحتفلين.. تمطّى المساعد البدين وتثاءب فبانت كوارث حقيقية داخل فمه، ثم أردف قائلاً: وشو عرّفكن إنّو العرس مو مرخص؟

النتيجة واضحة إذاً، أبو سطام يعرف الأصول، ويمر على المخفر ورئيس البلدية والمختار ويرضي الجميع قبل أن يبدأ ماراتون الضجيج هذا..

 هكذا استمعنا طوال الأيام السبعة إلى سمفونيات بكل اللغات، مع حفلات الذبح اليومي للنعاج في عرس القرن الذي يضارع أعراس أولاد محدثي النعمة الذين كان معظعهم رشيقاً في الانتقال من ضفة الى ضفة مع الاستمرار في مهنتهم النظيفة، استثمار كل شيء.

وبينما كان سطام ينعم بالدفء في أحضان عروسه كان زملاء المهنة يعتلون أسطح منازلهم ويبدؤون في خطف ما تيسر من حماماته، وحين استفاق سطام صباحية العرس كان أول ما فعله هو ترك العروس نائمة وتفقّد حماماته الحبيبات، وإحصاء خسائره نتيجة هذه الزيجة، وكانت النتيجة عادية، أربعة طيور بايملي وقرباطيتان… ثم حصل ما لم يكن بالحسبان.. سحب موس الكباس من جيبه وبدأ مجزرته بالطيور الحبيبة، سطح المنزل صار بركة دم، ورؤوس الحمامات مرمية بفوضى جانب أجسادها.. ثم أزال بيت الحمام وكل آثار مرحلة بدا أنها مضت، ليصبح اسمه سطام بيك، ويدير المكتب العقاري للسيد الوالد الذي تفرغ للمجلس والقهوة المرة والمصالحات والوجاهات..

ثم جاءت الحرب.. وصارت الحارة والحمامات والعرس رواية.. رواية فحسب.

العدد 1140 - 22/01/2025