دور المقهى في الحياة الثقافية
عشرات المحطات قطعها الزمن.. وعشرات المقاهي ما تزال راسخة في ذاكرات الناس في مصر والعراق وبلاد الشام والمغرب وغيرها.
وسجل تاريخ المقاهي مئات بل ألوف الصفحات من القصة والشعر والرواية والمقالة وغيرها.. وكانت المقاهي مراكز إنتاج، بل مصانع للإبداع والثقافة، وكتبت فيها البيانات السياسية واللقاءات الثورية السرية.. وكانت مراكز للقاءات ونشاطات حركات التحرر العربية في دمشق والقاهرة وبيروت وغيرها من العواصم العربية، إضافة إلى أنها مكان تجمّع لشرائح اجتماعية وطبقات متآلفة ومتناحرة.. ومكان للنزاعات والشجارات والتهديدات أحياناً بالسلاح.. وللنميمة والتقويم والانتقاد والكذب والبهرجة والنفخ بالنفس إلى حدود الانفجار..!
والماضي شاهد لن يموت.. وقد سجَّل تاريخه أسماء المقاهي وصفاتها، كأن يكون هذا مقهى للسياسيين وذاك مقهى للمثقفين.. وهذا مقهى للثوريين وآخر للماركسيين والقوميين.. ولا أدري ما إذا كانت بعض المقاهي تدخل في سجلات الإخوان المسلمين..! فعلى سبيل المثال ما يزال مقهى (ريش) في القاهرة يحمل تاريخاً من العراقة ودوراً للمثقفين الذين كتبوا صفحات من إبداعاتهم السردية والشعرية ومسرحياتهم ومقالاتهم النقدية والانطباعية والساخرة.. والمقهى مكان لقراءة الصحف اليومية ومطالعة المجلات وتوقيع البيانات المطلبية والسياسية كالمطالبة ب(الإفراج عن معتقلي الرأي). ومكان للقاء قادة حركات التحرر العربية.
كثيرون من الكتاب يتلذذون بكتابة قصصهم وزواياهم الصحفية والمقالات السريعة في المقاهي، رغم الضجيج وتنافر الأصوات ونماذج الحروف الخارجة من حناجر المدخنين والمؤركلين ورائحة التنباك الخانقة.
ويذكر أن الروائي الكبير نجيب محفوظ كتب قصة (الكرنك) كلها على أريكة. وكان من الرواد أيضاً الأدباء: يوسف إدريس، أمل دنقل، يحيى الطاهر، أبو سنة، عفيف مطر، إبراهيم فتحي، إبراهيم منصور.. نجيب سرور وغيرهم.. وفي العراق شكلت المقاهي صفحات من تاريخ الأدب والفن والمسرح.. وكان يرتادها المثقفون والكتاب، ومنهم: الرصافي، الزهاوي، البياتي، سعدي يوسف، مظفر النواب، غائب طعمة فرمان .. وآخرون..!
ويشير كتاب (الروضة الغناء في دمشق الفيحاء) لنعمان قساطلي، إلى أن دمشق كان فيها 110 مقاهٍ في القرن التاسع عشر. ومن أشهرها: (السكرية، القماحين، الدرويشية، العصرونية، المناخلية، القيمرية، الجنينة، جاويش.. وغيرها)، ومقهى (الكمال) من أشهرها كتب به الأديب معروف الأرناؤوط (سيد قريش)، ومقهى (علي باشا) الشعبي ومن رواده: الأديب صدقي إسماعيل، ومقهى (الروضة) ومن رواده نزار قباني، عبد السلام العجيلي، أحمد صدقي النجفي، وخليل مردم .. وغيرهم.
اليوم.. ونحن في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، يرى من يتابع حياة المقاهي ويرصد تطورها والتغيرات التي حصلت لها، لا بدَّ أن يتحسَّر على أيام زمان.. خاصة من الذين عاصروها وكانوا من روادها. وقد تحوَّل بعضها إلى مراكز تجارية أو مطاعم أو ارتفعت فيها العمارات والأبراج.. وقلَّ عددها.. ورغم ذلك ما تزال المقاهي المتوفرة مثلاً في دمشق (الروضة والكمال)تزدحم بالزائرين على مدار الأسبوع.. وما يزال الكتاب المدمنون على القهوة الصباحية في المقهى يكتبون الزوايا الصحفية، ويتخذونها مكاناً للمواعيد واللقاءات المتنوعة الأغراض..
يظل المقهى مهما تطورت الحياة وتبدلت الظروف مكاناً للقاء المثقفين والفنانين والمحامين والمتقاعدين) وطيف واسع من المواطنين.. وله دور هام في الثقافة والسياسة والحياة الاجتماعية.