اللغة الغائبة
عندما تصبح اللغة قيمة فائضة، أو غائبة، وتذهب بالفكر، والوجدان.. لغة أخرى مختلفة، ومغايرة، لا علاقة لها: بلساننا العربي الأصيل، ولغتنا العربية الخالدة: قيمة، ومعياراً، فمعنى ذلك أن إشكالية خطيرة تتهددنا في صميم ثقافتنا، وفكرنا، ومناهجنا ككل، في وقت ينادي فيه المثقفون جميعاً، والأدباء، ورجالات الفكر، إلى أن تقوم الجهات كافة بالعمل على استعادة لغتنا مكانتها، وقيمتها، كإحدى أهم لغات التاريخ المبثوثة في وجدان أتقن التعامل معها، وصياغتها، وفق أرق الصياغات الإبداعية وأشفها لتكون حقيقة: أم اللغات، وأرقاها، وأعلاها قيمة، وأغلاها جوهراً، ولساناً عربياً مبيناً، وكم صدقت الحكمة فيها: (وإن من البيان لسحراً). وما دعاني للخوض في هذا الموضوع المهم والخطير، وظاهرة (اللغة الغائبة)، ما وقفت عليه مؤخراً من قراءات لرسائل جامعية تحضر للدراسات العليا: الماجستير، والدكتوراه، من خلال تدقيقها، ومراجعتها لطلاب من المفترض أن يكونوا في مرحلة أن يصبحوا أساتذة، ومعلمين للأجيال، ودفعاً جديداً لدم جديد يبث في الأجيال الصاعدة روح لغتنا ووهجها وإشراقها في وجدان تلك الأجيال!
فإذا بي أمام فاجعة لا تقل خطورة عن جوّنا الكارثي الذي نعيشه، بأوجهه، ومساراته جميعها، وعلى الصعد كافة! ومن الأغلاط اللغوية ما لا يخطر على بال، والإملائية والنحوية، وتراكيب في الجمل ركيكة، وغير مترابطة، ومذهلة، حتى أني تساءلت بمرارة في نفس حادة: هل حقيقة هذه رسائل ماجستير ودكتوراه، ولأقسام في جامعاتنا مختصة تماماً: بموضوع اللغة، وفقهها، وبيانها، وشؤونها، وشجونها، خاصة تلك الأقسام المتعلقة باللغة العربية وآدابها، والفلسفة؟ شيء مذهل، وموجع، وجارح للصميم، إذا كان أولئك على هكذا حال؟! فكيف سيكون حال النشء الذي سيتتلمذ على أيدي مثل هذه الفئة من الخريجين، وهي أبعد ما تكون عن أساسيات اللغة، وفقهها، وجمالياتها، وأمورها الكثيرة، والمثيرة، ومداخلها ومخارجها المتعددة، والمتشعبة لدرجة غاية في التفرد والعمق والأصالة؟! يا للأجيال القادمة، والصاعدة كم ستعاني من محنة الهبوط في صعودها إلى درجة المأساة، والمعاناة؟! ويا للساننا العربي المبين يوم يغدو رطانة لا حدود لها من البشاعة والغرابة؟! ويا ليوم يجيء تصبح لغتنا غريبة عنا وبريئة منا، ونصبح عنها غرباء، ومنبوذين! إلا لحظة تجيء ندرك فيها ما علينا تجاه أم لغات الزمان؟!