كانوا صغاراً
كان (حسن القصر)، وقد سماه أهل القرية بهذا الاسم لأنه يسكن البيت الإسمنتي الوحيد الذي شيده إقطاعي يسكن المدينة لناطور أرضه التي كانت تمتد على مساحات شاسعة وفيها مختلف أنواع الشجر، فسموه القصر.
كان الناطور ينوب عن المالك في كل شيء، في زراعة أشجار جديدة وبيع المحاصيل وتشغيل العمال والعاملات والحسابات وسقاية الشجر، باختصار كانت حياته وحياة أسرته مسخّرة لأرض (الحجي) الذي يأتي أيام الجمعة هو وأولاده وزوجاتهم وأطفالهم ليمضوا نهارهم في ظلال الشجر، وكان حسن القصر يقوم بخدمتهم هو وزوجته وأولاده أيضاً.
الحاصل أن نبع ماء عذب وبارد كان يتدفق في تلك الأرض ويأخذ منه أهالي القرى القريبة حاجتهم منه، لكن جمو الأفكح استثمر النبع بطريقة أخرى، تعود أن يملأ الجرة بفواكه البستان ثم يكملها ببعض الماء ويمر من أمام الناطور على أنه ينقل الماء إلى بيته، لكن حسن القصر انتبه إلى فعلة جمو التي تتكرر كل يوم، وغض النظر عنه مراراً على أمل أن يكتفي بما أخذه من البستان، فقرر أخيراً وضع حد له، انتظره حتى عاد حاملاً جرته وهو يصعد الطريق الجبلي المتعرج، وحين مر بقربه وهو يلهث تعباً وخوفاً طلب منه شربة ماء من الجرة، فقال جمو: والله عمي حسن ملأته من النهر وهو لا يصلح للشرب، لأن أهالي القرية نشفوا النبع من كثرة استجرارهم منه اليوم.
رد حسن: ليكن، أريد أن أشرب من ماء النهر، املأ لي هذا الإبريق من فضلك.
احتار جمو وهو يعرف أن فعلته ستنكشف إن أمال الجرة، لكنه أمام إصرار حسن أمالها ليسكب منها الماء في إبريق حسن، فبدأت حبات الخوخ تتدحرج أمامه، عندئذ قام حسن بجمع الحبات التي انسكبت من الجرة، وأعادها إليها، وترك جمو يمضي بصيده هذه المرة معلناً توبته ومقسماً أنه لن يعيدها…
***
في قرية نائية من الريف السوري لم تكن قد وصلتها الكهرباء تأسست جمعية فلاحية كما كل القرى المجاورة، وبعد أن حدد مقر الجمعية في منزل أحد القرويين المهاجرين مع عائلته إلى لبنان، البلد (النفطي) المجاور الذي بلغ عدد العمال السوريين فيه 35 ألف عامل، فيما بلادهم المليئة بالخيرات تبخل عليهم بفرصة عمل يعيشون منها عيشة كريمة، فيهاجرون إلى ذل العمل في لبنان الذي لا يملك غير السياحة والترانزيت مصدراً للاقتصاد، فلم يكن فيه نفط أو غاز أو مساحات شاسعة من زراعات القمح والقطن والزيتون والحمضيات، لكنها لصوصية الكبار الذين لم يتركوا ملاذاً للصغار سوى الهجرة أو ممارسة لصوصية على مقاسهم..
الجمعية ترأسها فلاح مثقف وحمل الختم الدائري، وكان أول طلب وجهه للقيادة شراء كراسي وطاولة و(لوكس)، وهو جهاز إنارة يعمل على زيت الكاز ثم حدّث مؤخراً ليعمل على الغاز.
وبعد الموافقات صار اللوكس هو الجهاز الوحيد في الجمعية الذي يمكن أن يتحمل صرفيات يومية من وقود الكاز وتبديل (قميص اللوكس) وبعض الإصلاحات الطفيفة. لكن المصاريف النثرية والتي لا يوجد لها بند في ميزانية الجمعية صارت تضغط على رئيس الجمعية وأمين سرها اللذين يقودان العمل فيها، وخصوصاً نفقات الولائم التي تقام للقيادات الحزبية والنقابية التي تأتي إلى القرية في سيارات حديثة مزودين بمهمات مدفوعة التكاليف، ونفقات الهدايا التي تحمل في سياراتهم من قبل الجمعية لضمان حسن سير العمل !!
وحين همس رئيس الجمعية لمسؤوله خلال اجتماع في المدينة عن هذه المعضلة التي بدأت تراكم على الجمعية ديوناً وأعباء مالية قال له المسؤول: أنت آمر الصرف، نظم فواتير لإصلاح الآليات أو المبنى أو الأثاث، فهمس له أن الجمعية ليس فيها سوى اللوكس.. فرد بحنق: إي أعمل فواتير إصلاح اللوكس وخلصني.
وهكذا بدأت فواتير إصلاح اللوكس تتالى وتكبر لتغطي نفقات الجمعية المستورة، مع اتباع سياسة غض نظر من قبل المسؤولين الذين كانوا يعودون من زياراتهم إلى الجمعية سالمين غانمين، فيما يبحث رئيس الجمعية عن استرداد ما دفعه وبعض (فضل القيمة) له ولأمين السر. دارت الدوائر وتغيرت القيادات النقابية فكان على القيادة الجديدة أن تثبت حسن سريرتها وميولها الثورية بنبش سجلات السلف، ووقعت على فضيحة بجلاجل، بعد أن دققت في صرفيات جمعية القرية. إذ بلغت نفقات إصلاح اللوكس خلال عام ثمن جرار زراعي كان يمكن أن يساعد عمل الجمعية ويدر عليها أرباحاً ويغطي نفقاتها المستورة أيضاً..
لم يكن لديهم غير اللوكس ليترزقوا منه وقد تلقوا الضوء الأخضر من قيادتهم..
لصوص صغار أنجبتهم مرحلة قامت على احترام اللص ونبذ الآدمي الذي يتهم بأنه (تيس لا بينحلب ولا بينجلب)..
الآن وبعد كل ما فعلته الحرب وأنجبت لصوصها الكبار والصغار أيضاً، ما زالت قصة لوكس الجمعية ترن في آذاننا.. مع سؤال موجع للكبير غسان كنفاني في (رجال في الشمس): لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟؟ لماذا؟!