لا تذبحوا سورية أكثر

مما لا شكّ فيه أن كل البلدان التي تعيش حروباً ونزاعات مسلحة، لاسيما لفترات طويلة، قد تشهد نزوحاً بشرياً كبيراً، وهذا أمر طبيعي تفرضه غريزة البقاء والهرب من جحيم الموت وانعدام الأمن والأمان.

غير أن ما تشهده سورية بعد مضي خمس سنوات من الحرب الدائرة فيها، قد تعدى حدود المنطق والعقل، وحتى الخيال. إذ نرى اليوم حالة نزوح وهجرة داخلية وخارجية في آنٍ معاً، غير أن الهجرة الخارجية قد استأثرت بالحصّة الأكبر بشكل لافت ومثير للانتباه في كل أصقاع الأرض، والدافع وراء تلك الحالة أسباب تنقسم إلى نوعين، موضوعية وذاتية.

أولاً- الأسباب الموضوعية

– انعدام الأمن والأمان الضروريين لحياة البشر، فقد استشرت مظاهر القتل والخطف والاغتصاب والاعتقال غير المدروس، وكذلك عمليات السطو المسلحة وغير المسلحة على ممتلكات الآخرين، إضافة إلى النهب والسرقة وفرض الأتاوات وما إلى ذلك.

– تفشي ظاهرة المحسوبيات والسلطة غير القانونية في المجتمع بشكل عام، وفي أماكن العمل والتعليم بشكل خاص بحجة الدفاع عن الوطن وحمايته، حتى بات الناس أقل من بيادق معدومة الكرامة أمام فئة قليلة تسيّدت الحياة اليومية بمظاهر مسلحة أو غير مسلحة.

– ارتفاع مستوى الغلاء إلى قياسات فاقت حدود المنطق وما تفرضه الحروب، لجميع مستلزمات الحياة من طعام ودواء وسكن وجميع ما يتعلق بتلك الاحتياجات الضرورية، فقد بات تأمين رغيف الخبز بحدّ ذاته مشكلة للغالبية العظمى، بسبب جشع تجار الحروب الذين لم يجدوا رادعاً أخلاقياً ولا قانونياً يتصدى لهم بعد تردي أوضاع العدالة.

– تدني بل وانعدام مستوى الخدمات على المستويات والصُعد كافة، بما فيها التعليم والصحة والقضاء، وهذه الأمور من القضايا الأساسية والهامة في حياة الناس.

– ارتفاع مستوى البطالة لنسب غير معقولة، جعلت غالبية البشر، لاسيما فئة الشباب خارج نطاق العمالة، وما يرافق ذلك من نتائج كارثية سواء على مستوى القيم والأخلاق، أو على مستوى تلبية الاحتياجات الضرورية لحياة كريمة تليق بالإنسان.

ثانياً- الأسباب الذاتية

– ضبابية أو سوداوية المستقبل المنظور والبعيد للفرد والبلد بحكم عدم التوصّل إلى حلول سياسية تنقذ ما تبقى من حياة الإنسان وكرامته.

– الشعور بالخيبة والعجز عن تحقيق أي هدف أو حلم في ظل كل ما ذكرناه أعلاه.

– الخسارات الكبيرة التي مُني بها الكثيرون، لاسيما في المناطق المشتعلة والتي باتت أشلاء متناثرة وخراب تعيث فيها الغربان، حتى لم يبقَ شيء آخر يخسره الإنسان سواء بقي في الداخل أو هاجر إلى الخارج.

– الرغبة الدفينة لدى العديد من الشباب في الهجرة إلى الخارج، والتي ربما كانت غير ممكنة في ظروف السلم، فبات اليوم تحقيقها أمراً عادياً في ظل ما يجري.

إن هذه الأسباب وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها هنا، قد أوصلت الناس إلى مستوىً مرعب من الشعور باللامبالاة تجاه الذات والآخرين والحياة بشكل عام، دون النظر إلى النتائج الكارثية التي ستترتّب على تلك الهجرة المرعبة، والتي يقبع خلفها إضافة إلى ما ذكرناه من أسباب ذاتية وموضوعية، أسباب أخرى لها علاقة بالمؤامرة على المنطقة بشكل عام، وسورية بشكل خاص، وهذا يعني أن هناك قوى داخلية وخارجية تكاتفت وتحالفت بشكل أو بآخر من أجل الوصول إلى ما وصلنا إليه، بغض النظر عمّا سارت عليه الأمور منذ بداية الأزمة من عدم احتواء الموقف بشكل منطقي وعقلاني. من هذه الأسباب:

1- تُعتبر سورية من البلدان التي تمتلك طاقات بشرية فتية، بمعنى أن نسبة فئة الشباب فيها أعلى من نسبة الكهولة بالنسبة إلى عدد السكان، وهذا بحدّ ذاته ميّزة تفتقد إليها معظم البلدان، ميزة تدفع البلاد إلى مستويات متقدمة على الأصعدة كافة ذلك لو توافرت الإرادة الحكومية الصادقة والإمكانيات المادية والمعنوية التي تؤهّل الشباب لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم. وما يجري منذ أكثر من خمس سنوات يهدف بشكل أو بآخر إلى إفراغ المجتمع من تلك الشريحة الشبابية الفاعلة، وبالفعل قد أصبح المجتمع السوري اليوم مجتمعاً كهلاً بسبب تلك الحرب وما استدعته من مقتل واستشهاد واعتقال وهروب وهجرة آلاف الشباب، حتى باتت العديد من الأسر خالية من الشباب الذكور فيها.

2- إن هجرة الشباب والكفاءات العلمية والمهنية، تعني ترك البلاد تحت وطأة الفقر والتخلف بكل اتجاهاته ومستوياته، وهذا بحد ذاته كارثة إنسانية واقتصادية كبيرة ستعود بالبلاد إلى عهود سحيقة من البدائية على مختلف المستويات، مما يحتاج إلى زمن ليس بالقليل من أجل إعادة تأهيل كفاءات جديدة تنهض بالمجتمع مجدداً.

3- استغلال الغرب للأزمة السورية، ومحاولة الظهور بمظهر إنساني يتعاطف مع السوريين المهاجرين، واستغلال اليد العاملة السورية من الشباب والكفاءات بأجور لا يمكن أن تصل لمستوى الأجور التي يطلبها مواطن تلك البلدان التي تفتقر لشرائح الشباب من مواطنيها إلى حدٍّ ما، وبالتالي فقد وجد هذا الغرب اليد العاملة الرخيصة والمؤهلة بلا أدنى خسارة، مما يرفع من نسب أرباحهم، ويهدد عمّالهم إن هم حاولوا التمرّد على حالات ومستويات التقشّف التي تفرضها سياساتهم المتصدية للأزمة الاقتصادية العالمية التي تعصف بهم وبالعالم منذ عام 2008.

4- انتعاش اقتصاد البلدان التي يمرُّ بها أولئك المهاجرين، بسبب متطلبات الإقامة والعبور، كتركيا مثلاً، وهذا بحدّ ذاته أحد مخارج الأزمة الاقتصادية العالمية التي وجدت في الحرب السورية سوقاً رائجة ورابحة سواء على مستوى السلاح أو على مستويات اقتصادية أخرى.

5- استنزاف القطع الأجنبي من البلاد، إضافة إلى هبوط أسعار الممتلكات التي يقوم طالبو الهجرة ببيعها بأبخس الأثمان، واستغلال التجّار لهم في تلك الحالة، أو الاستدانة التي تفرض على الأهل مستقبلاً ربما بيع كل ما يمتلكون من أجل التسديد، وبالتالي تكون تلك الأموال قد خرجت من البلد وذهبت إلى الأماكن المقصودة خارجاً.

إن كل هذه الأسباب مجتمعة تبدو بعيدة تماماً أو مُبعَدة عن أذهان المهاجرين الحالمين بجنان الغرب، وهذا بحدّ ذاته كارثة حقيقية على المستوى الشخصي والعام، لاسيما لأولئك الذين لم يتعرّضوا إلى ما تعرّض له من كان في المناطق المشتعلة وخسر كل شيء، ولم يبقَ هناك ما يخسره أكثر من بلاده.

فلو تمّ التفكير بشكل منطقي وعقلاني لمواجهة الظروف التي يتحمّلها معظم السوريين في الداخل المفتقد فعلاً لأدنى متطلبات الحياة والكرامة، ولو فكّر أولئك المهاجرون سعياً وراء أحلامهم باستثمار تلك الأموال التي تطلبتها هجرتهم هنا في الداخل، ربما لكان أفضل لهم وللبلد، مع أحقية الغالبية في قرار الهجرة. إن الغرب المتباكي اليوم على حال السوريين، والذي يريد أن يظهر بمظهر المتعاطف والحامي لهم، لو أراد فعلاً أن يكون إنسانياً حقاً، لعمل مجتمعاً على وقف تلك الحرب بأيّ شكل، وقدّم المساعدات الإنسانية الحقيقية المختلفة التي تعمل على النهوض بالسوريين فعلاً بعد حرب مريرة.

إن سورية التي أهّلت أبناءها على كل المستويات، ولو بالحدود البسيطة، كي ترتقي بهم ويسموا بها، هي اليوم جرح نازف يحتاج لأيدٍ صادقة تضمّد جراحها، وتُعيد إليها ألق الحياة بكل ما تستحقه منكم أيها السوريون، فلا تذبحوها أكثر!.

العدد 1140 - 22/01/2025