مفهوم الجندر.. غموض والتباس!
يُعتبر الجندر من المفاهيم والمصطلحات حديثة العهد في المجتمعات العربية، لذا ما زال ضعيف الانتشار، فقد اقتصر تناوله على فئة أو شريحة محدودة حتى في أوساط المثقفين والمفكرين والسياسيين، وهذه الشريحة هي بعض منظمات المجتمع المدني الناشطة بقضايا المرأة، مما جعله مفهوماً أو مصطلحاً نخبوياً حتى اللحظة.
فقد لمست من خلال النقاشات والحوارات التي تدور بيني وبين العديد من الأشخاص أن هناك إمّا جهل كامل بمفهوم الجندر، وإمّا التباس وعدم فهم حقيقي لهذا المفهوم الذي أثار سجالاً حاداً ما زال مستمراً في المجتمعات العربية، باعتباره ثقافة دخيلة على مفهوم العلاقة ما بين المرأة والرجل وتحديد الأدوار لكلٍ منهما (النوع الاجتماعي)، أو باعتباره بالنسبة للبعض مفهوم شائك من حيث تحديد ماهية الاختلاف ما بين الجنسين(ذكر وأنثى) في تلك المجتمعات.
لذا ارتأيت أن نتناول هذا الموضوع بصورة مبسّطة قدر الإمكان، من أجل أن نزيل بعض الغموض عن هذا المفهوم أو المصطلح من أذهان الناس كي يكون هناك فهماً حقيقياً لما يرمي إليه، باعتباره لاقى هجوماً عنيفاً من العديد الذين اعتبروه دعوة لانحلال الأسرة من جهة، مثلما هو دعوة لتحلل وليس لتحرر المرأة من وجهة نظرهم من جهة ثانية.
فالجندر، أو ما يمكن تسميته أو تعريفه بالنوع الاجتماعي، والذي يشمل ويعني الاختلافات بين الجنسين ما بعد الولادة، بمعنى أن التربية هي التي تقيّد الجنس بمفاهيم وأدوار تحددها مسبقاً وفق منظور القيم والمفاهيم والتقاليد الاجتماعية السائدة في كل مجتمع من المجتمعات. وهذا ما أشارت إليه سيمون دي بفوار حين قالت: (أن المرأة لا تخلق امرأة، وإنما التربية والمجتمع يصيّرانها امرأة).. وذلك بفعل التمييز ضدها وإقصائها عن القيام بدورها الحقيقي في عملية التنمية التي تفترض وجودها مواطنة لها حقوق وواجبات كالرجل تماماً.
إن مصطلح (الجندر) أو النوع الاجتماعي يطلق على العلاقات والأدوار الاجتماعية والقيم التي يحددها المجتمع لكل من الجنسين (الرجال والنساء).
ورغم ما يثيره هذا المصطلح من جدل، لاسيما بعدما استخدم في المواثيق والاتفاقيات الدولية، فإن البعض يذهب إلى أن المقصود بالجندر هو تحرير المرأة أو إلغاء التمييز ضدها. ويرى البعض الآخر أن المقصود هو تبادل الأدوار الوظيفية داخل المجتمع لكل من الرجل والمرأة، وأن تكون الأولوية لمن له الكفاءة في أداء هذه الأدوار.
تُعرّف منظمة الصحة العالمية الجندر أنه: (المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية).
وفي مؤتمر بكين للسكان الذي عقد عام 1995 جرى التركيز المكثّف على استخدام مصطلح الجندر باعتباره أساس الدعوة إلى إلغاء جميع الفوارق التي من شأنها أن تنتقص من حقوق المرأة أو التي تعطي الرجل حقوقاً أكثر من المرأة، وركّز المؤتمر على أن طرح فكرة المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بالحصول على الحقوق وممارسة الأدوار الوظيفية داخل المجتمع إنما يتبلور من خلال استخدام مصطلح الجندر.
كما اعتمد الخطاب العالمي المستخدم في المؤتمرات والمواثيق والاتفاقيات والمعاهدات على مصطلح الجندر للتعبير عن كل ما من شأنه تعزيز دور المرأة والمشاركة في التنمية وتفعيل دورها في المطالبة بحقوقها، وكذلك القيام بدور هام وحيوي في تنمية المجتمع الذي تعيش فيه، فهو يهدف إلى تعميق الشعور لدى شعوب العالم بضرورة إلغاء التمييز ضد المرأة وكفالة إعطائها جميع الحقوق داخل المجتمع الذي تعيش فيه شأنها في ذلك شأن الرجل سواء بسواء.
إن المساواة في النوع الاجتماعي حق أساسي من حقوق الإنسان، والمجتمع وحده هو الذي يضمن أن جميع النساء والرجال يدركون ويستفيدون من هذا الحق.
كما أن للجندر بعد اجتماعي وتاريخي، لذلك ينبغي إدراك الجندر، ليس فقط كخاصية ثابتة للأفراد ولكن كجزء من عملية مستمرة، كما أن الجندر هو خطاب ثقافي.
لقد أكدت (دي لورليتث) أن مفهوم الجندر هو بناء اجتماعي وثقافي أيضًا، وأن ذلك عملية تاريخية مستمرة تُدار في كل المؤسسات المجتمعية في كل يوم من الحياة، في وسائل الإعلام والمدارس، والأسر، والمحاكم ..الخ، وأكّدت أن مفهوم تكنولوجيا الجندر هو بناء ثقافي اجتماعي وأجهزة دلالية، ونظام من التمثيل الذي يحدد معنى الأفراد في المجتمع باتباعها أفكارها وآرائها.
كما وجدت الباحثة الأنتروبولوجية (مارجريت ميدا) في ثلاثينيات القرن الماضي بعد دراسات عديدة قامت بها أن معظم الخصائص السلوكية الحالية لدى الرجال والنساء ليست في الواقع لاختلاف في الجنس وإنما هي انعكاس لأثر الثقافة والتربية على الأفراد. وهذا يدحض الأفكار التي يروّجها رافضو هذا المصطلح وثقافته من أنه يدعو إلى أن تتحلل المرأة من أخلاقها مثلما تتحلل من أدوارها التي وهبتها إياها الطبيعة كالحمل والإنجاب والإرضاع، والدعوة إلى أن يقوم الرجل بهذا، وبالتالي تحلل الأسرة وانهيارها.. وهذا فهم خاطئ تماماً لما يُراد من الجندر.
وهنا يكون معنى مفهوم النوع الاجتماعي أنه مختلف الأدوار والحقوق والمسؤوليات المتعلقة بالنساء والرجال والعلاقات القائمة بينهم. ولا يقتصر المفهوم على النساء والرجال وإنما يشمل الطريقة التي تحدد بها خصائصهم وسلوكياتهم وهوياتهم من خلال مسار التعايش الاجتماعي. ويرتبط النوع الاجتماعي عموماً بحالات اللامساواة في النّفوذ وفي إمكانية الاستفادة من الخيارات والموارد. وتتأثر المواقع المختلفة لدى النساء والرجال بالحقائق التاريخية والدينية والاقتصادية والثقافية. ويمكن لتلك العلاقات والمسؤوليات أن تتغير، وستتغير حتماً عبر الزمن.
غير أن الجندر يستهدف أيضاً الفئات المهمّشة في المجتمع، وهذه الفئات تضمّ الرجال والنساء على حدٍّ سواء، كما يستهدف الطبقة الفقيرة في المجتمع بما تحتويه من الجنسين.
ومن هنا نجد أن مفهوم الجندر لا يقتصر فقط على المساواة بين الجنسين (رجالاً ونساء) وإنما يطال الطبقات والفئات وسواها ممن يشملهم التمييز والعنف ممن هم أقوى وأعتى منهم من طبقات وفئات اجتماعية أخرى( التمييز الديني، السياسي، العرقي، القومي.. إلخ).
ولكي تسود ثقافة الجندر في المجتمع، يقع على وسائل الإعلام بكل أطيافها مسؤولية نشر هذا المفهوم ومحتواه، إذ ما زال تناوله خجولاً ويكاد يكون معدوماً في وسائل إعلامنا، وفي المؤسسات التعليمية، وإلاّ لما جهل من سألناهم سواء من طلبة الجامعة أو غيرهم وجود مصطلح أو مفهوم كهذا.
فهل نصل إلى اليوم الذي تنتشر فيه هذه الثقافة الجندرية في المجتمع كما تنتشر ثقافات أخرى..؟