في قفص الحب

في واقعٍ بارد ومقفر، الأحلام الدافئة وحدها من تعيننا على المضي قدماً فيه.. أما الشغف الذي تحتويه نفوسنا فهو نهِمٌ بما فيه الكفاية ولا يفارقنا، وتمسك بأشواقنا قبضةٌ صلبة نحاول قمعها عميقاً في أقبية عقولنا.

الوقوع في الحب، دربٌ مغرٍ محفوف بالمخاطر.. نسير نحو الحب بعيون مغلقة، نغني اسم من نحب، وترسم السعادة به طيوفاً حولنا في كل مكان. لكن كثيراً ما تكون العلاقات العاطفية هشة إلى درجة مخيفة، وومضة الحب الدافئة سرعان ما تنجلي مع أول عائقٍ للتفاهم. الناس يتغيرون إما لرحيل أو خلاف، وكلما زاد حبنا عمقاً بدأ انعدام الأمن في أعماقنا بالظهور.

 

الحبُّ ضرورة مهما نحاول قمعه

فإنه قدرٌ لا مفر منه

ليس مستحيلاً أن يطالبُ المرء بحبيب ينساب بعذوبةٍ في تفكيره، مثالي، يتقبله بأحلكِ أسراره، متفانٍ وودود. حينما تهب الحياة بمشاكلها وأوجاعها، لا يتوق الكثير من الناس لتلبية احتياجات شركائهم بعمق، وقد يتخلون في الظروف القاسية عنهم.

يتوق المرء لشريكٍ لا يتغير، شخص يلاقي احتياجاته وآفاق طموحاته، شخص يفخر به. حبه واسع وعميق، مؤمن بشخصه، حقيقي منفتح ودافئ، يرافقه في ويلات المرض، والشيخوخة والمآسي، شخص بفقدانه تتحول الحياة إلى مساحاتٍ من الخذلان. لكن هل هناك أمل بشريك مثالي؟

لا يوجد إنسان كاملٌ على وجه الأرض، ولا تنفك الأوجاع تغتال الحياة. ولم يتبقّ سوى القليل من الحالمين بلقاء المحب المفرط بالحب، وبتلمس طريق إلى العلاقة المثالية. أما البقية فآثروا الاستسلام وكفوا عن البحث وعايشوا الواقع مجرداً كما يزورهم.

 لا تزال مفاهيم العلاقة المثلى تقوم على الانغماس بالآخر، احتكاره ورسم دربٍ لا تعرف سوى خطا أحدهما أو اندماج كليهما، وينسى الشريكان أن نكهة الحب المثلى تورقُ براعمها بدءاً من ذواتهم الحقيقية:

 

أستطيع العيش من دونك

(لا استطيع أن أعيش من دونك) عبارة لها الكثير من الصدى المأساوي العميق، عندما يكون فقدان محبة الحبيب من شأنه أن يجعل الحياة غير صالحة للعيش، عندما تمسي العلاقة العاطفية دافعَ البقاء على قيد الحياة، وأن الشخص الذي تجلس في انتظاره هو من يجعلها مشرقة، هذا يعني أن المرء يحتاج إلى شريك حياته بالطريقة التي يحتاج بها إلى الأوكسجين؟ إن العاطفة التي تغذي هذا النوع من العلاقة ليست حباً. يمكن أن تطغى الرومانسية في البداية، لكن مع مرور الوقت يفشل الشريك على الدوام في تلبية احتياجات شريكه.

إن عبارة (لا أستطيع البقاء على قيد الحياة من دونك) لا تعكس جاذبيتنا شركاء ناضجي العواطف، ولكنها صدىً لمرحلة طفولية، وتوقعاً لاستمرار احتياجاتها، إنها تعكس جوعاً لرعاية نحتاجها، وهي تعني أننا في منتصف الانحدار النفسي.

(لا يمكنني العيش دونك) متلازمة تنتهي عندما نتعلم كيفية رعاية أنفسنا بحنان وباهتمام أم جيدة. عند هذه النقطة نقف عند مقدرتنا على بناء استقرارٍ لحياتنا لا يعرف زعزعةً ويمهد الطريق نحو الحب الحقيقي.

 

ذلك الحب سيتغير بالتأكيد

يبدو أن معظم البشر مناهضون للتغيير بالفطرة، فإن أقام قدر من الراحة أو الاستقرار في حياتنا، نثبته بمسمار على حائط البيت بحيث لا نفتح مجالاً لإمكانية أية خسارة. إن مفهوم الوعد (حبي لك لن يتغير أبداً) هو كلمات شعرية شاعرية في معظم الأحيان. للأسف هو وعدٌ من المرجح أن يُغرق العلاقة، بدلاً من أن يدعمها. كل شيء وكل إنسان، يتغير باستمرار. التقدم في العمر، التعلم،العمل، المرض، تغير الظروف، العثور على اهتمامات جديدة وإسقاط القديمة.

حين يكون الشخصان في حالة تغير مستمر، يجب أن تكون العلاقة بينهما مرنة لتنجو. كثير من الناس يخشون إطلاق حبهم لحرية التغيير، ويعتقدون أنه سيتلاشى، لكن العكس هو الصحيح. والحب الذي لا يُسمح له بالتكيف مع الظروف الجديدة، يمكن تدميره في معظم الأحيان، خاصة أن الافتتان يميل إلى الرفق والهدوء.

أما في أوقات الشدة والمرض، فقد يشعر الشريك بداية بشعور من الالتزام أو العبء أكثر من شعوره بالانجذاب، ليأتي يوم يدرك فيه، أن هذه الظروف خلقت تعلقاً بشريكه أكثر عمقاً من أي وقت مضى.

كمياه جارية، التغيير في الحب يساعد على تجاوز عقبات الماضي. إن بقاءه في مكانه يجعله هشاً، جامداً، ومن المرجح جداً أن يتحطم أخيراً.

 

أنت لست كل ما أحتاجه

الكثير من العشاق يدَّعون أن شريكهم الرومانسي هو الشخص الوحيد الذي يحتاجون إليه في حياتهم، أو أن الوقت معه هو النشاط اللازم لتحقيق توازنهم. إن البشر حقيقة يعيشون في مجموعات، وفي رحلة مستمرة لاستكشاف الأفكار الجديدة، وتعلم مهارات نافعة. وعندما نحاول الحصول على كل هذه الميزات من شخص واحد هو مثل محاولة الحصول على مجموعة كاملة من الفيتامينات عن طريق تناول نوع واحد من الطعام فقط.

إن علاقتنا العاطفية ليست كافية لتجعلنا سعداء تماما، وإن تظاهرنا بذلك، لأننا عادة ما نضحِّي بكل ما نملك من الاحتياجات الفردية لتعزيز هذه العلاقة.

 

أطلقُ جناحيك خارج قفصي

هناك خيط رفيع بين الجملة الرومانسية (أنا أحبك كثيراً، أريد أن أحيا معك حتى يفرقنا الموت)، وبين الجملة المجنونة (أنا أحبك كثيراً، وإن حاولت التخلي عني، سأقتلك). (هذا الحب للآخرين أشبه بحب العناكب للذباب؛ إنهم يحبونهم للقبض عليهم، لشل حركتهم وتقييدهم بأغلال العلاقة. إنه حب الامتلاك والاستغلال المنطوي على السيطرة على الشريك. بينما يستند الحب الحقيقي على إعطاء الحبيب حرية اتخاذ خياراته في العلاقة، مهما كانت!

 

أنا وأنت لسنا واحداً

إن إنكار الذات، أو السعي إلى الهيمنة يتحول في النهاية إلى استياء، ويسمم العلاقات الوثيقة.

من خلال العلاقة بصيغتها المثالية: (نحن واحد) سيمسي الحب بين الشريكين مروعاً. اتباع القلب عكس اتجاه الشريك يخلق التكامل كما أن تقبل الخلافات أو الاتفاق على الاختلافات، والتعود على زوال الروابط أو تجديدها، يجعلنا نتعلم الحب الفعلي بدلاً من التعلق بمرآة نرسم فيها ملامح ظلال من نحب كما نشاء، لا كما هي في الواقع!

العدد 1140 - 22/01/2025