مسكين.. أيها الشعر

ها أنت ذا تمشي وحيداً، البعض يتجاهلونك ولا يعترفون بك، وربما وصفوك بالولد الذي لا أهل له، وآخرون ينتظرون أن تلفظ أنفاسك الأخيرة..! لا تتبختر بمشيتك فوق السطور، متعرجة هي الدروب التي كنت تتسيّدها، لم يعد هناك خيمٌ، ولا مضارب للقبيلة ولا سباقات بين الفرسان، لم يعد يذهب الرجال إلى الصيد ليتغنوا بك وهم يحملون ما اصطادوا..! في زمن البنايات الشاهقة والمرسيدسات الفاخرة وشبكة الإنترنيت، الجميع مسمّر أمام الشاشة يمارس ألعابه وهواياته دون أن يخرج من بيته.. أشرطة الcd مجموعة على الطاولة بأسطوانات ملوّنة، يختار منها اللون الغنائي المحبب أو المطرب المفضّل.. يتمايل مع صخب الموسيقل وهو يلتهم حبيبات المكسّرات اللذيذة..!

مسكين أيها الشعر. هل من عودةٍ إليك..؟! وأنت الذي قال رسول الله (ص) فيك : إنّ من الشِّعر لحكمة. و قال فيك الزبير بن بكار : (روّوا أولادكم الشعر فإنه يحلّ عقدة اللسان ويشجع قلب الجبان، ويطلق البخيل ليكون كريماً… ويحضّ على الخلق الجميل) وربما لو كان الأمير أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني حيّاً هذه الأيام لأصيب بذبحةٍ قلبية أو لمسّه الجنون أو لأصابه الفالج وهو يراك على هذه الصورة البالية..! أليس هو من قال : الشعر ديوان العرب.. أبداً وعنوان الأدب..!؟

مسكينٌ أيها الشعر.. مسكينٌ أيها الشاعر..! أين البيوت التي لم تُغلق بوجهك..؟ أين الحناجر التي كانت ترتّل أبيات الحب الدافئة في ليالي الشتاء القارس كلّما التقى عاشقان أو كلّما خطّت عاشقة لحبيبها رسالة غرام..؟ أين الآهات التي تنطلق من بين حمّى الكلمات.. أين القوافي التي ما برحتْ راسخة كجلمود صخر لا يقدر السيل على تحريكه..!؟

أيها المسكين.. كنت رائداً تتلمّس مواضع النور بين ظلمات الليل، تدل على أوكار الليل في وضح النهار.. لا تقنع بما يحدّه أفق عينيك من المشاهد، لا تقف عند البيّن من شؤون الحياة. بل تنفذ ببصيرتك إلى المستور والمجهول، إلى ما يلتبس فهمه من المألوف.. تبرز الأسرار الكامنة وراء الورقة من العشب والغصن من الشجر وتغريد العصافير من الغابة، تفضح العدم المغلّف بلمعة الشمس وتدلّ على تخاريم الحياة فوق غار الوجود. والآن، ها أنت مهمّش، يتعتعك الإهمال..!

مسكين أيها الشعر.. يا يقظةً عميقة الجذور، يا صلة ما بين العقل وخفايا الخفاء، يا متسامياً في ألفاظه إلى درجة توحّد السحر مع المنطق، يا رسالة السحر ويا دقة المنطق، أيها الزهرة التي لا تقدّر بثمنٍ كما قال عنك كمال فوزي (الشعر زهرة ثمينة، صيغتْ من بلّور فريد، يشفّ عن نقاء اللؤلؤة السابحة في الماء المتموّج فيها، نُقشتْ عليها أبدع التصاوير وأروع التلاوين، ثمّ زيّنتْ بباقة سحريّة عطرة، ضمّ فيها نادر الزهر وغصنه)..!

مسكينٌ أيها الشاعر.. من أين تأكل ولا يوجد من يقتني نتاجك..؟! لا.. لا يليق بك التسوّل فلتخلع عنك الشعر وتدخل وادي الرياضة أو الدراما المقدّس.. مجنون أيها المتاجر ببضاعة خاسرة..! فلتكسّر القوافي ولتحرق أبيات قصيدتك ولتسرع إلى قارعة الفن ممتشقاً دور البطولة، تُقلِّد ذاك الأشقر الآتي مع مياه الفرات.. وعندئذ.. عندئذ ستتراكم صورك على اللوحات الإعلانيّة وعلى واجهات المحال التجارية وسيحمل الأولاد حقائبهم إلى المدارس تزينها صورك وسوف يحفظون الأدوار والكلمات والتأوهات وربما اقتنوا أجهزة خلوية واستمتعوا بتلك النغمات، وهم يركضون وراء كراتٍ مملوءة بالهواء..!

مسكينٌ أيها الشعر.. ها أنت مطارد وممنوع عليك الاقتراب من حِمى الصفحات.. تطلّ خجولاً كما تقول الرائعة فيروز (كل سنة مرّة) ولكن.. لن يُصرف لك ما تشتري بثمنه قلم رصاص أو ممحاة تمسح بها عرق الكلمات الخجولة.. سجينٌ في الأدراج الرطبة.. خجول من الظهور.. مجرمٌ دون ذنب.. بريءٌ كالنور، لكنهم لا يريدون أن يروا براءتك..!

ها أنت ذا مهدّدٌ بالأخطار التي تحيط بك من كل جانب.! هاهو ذا توفيق الحكيم يتحسّس ذلك ويقول: (ما من ريب في أن هنالك أخطاراً تهدّد حياة الشعر.. وهذه الأخطار ليست وليدة اليوم). فقد ظهرت كلما ظهر في الإنسانية حدث أو تحوّل، فالشاعر كان يرفع القبيلة ويخفضها، قد أحسّ الخطر على سلطانه يوم تحولتِ القبيلة إلى دولة، فلم يعد الشاعر عندئذٍ يتكلم باسم جماعته بل باسم الملك. ثم تحولت الدولة من الأرستقراطية إلى الديمقراطيّة فما عاد الشاعر يتكلّم باسم الملك بل باسمه هو، للتعبير عما في نفسه..! ويضيف : (الخطر الذي توجّس الشعراء خيفة منه على كيان الشعر هو ظهور العلم في القرن التاسع عشر.. العلم الذي غيّر نظرة البشرية إلى الأشياء..!)

مسكين أيها الشعر.. هل من صرخة تعيد إليك الألق..؟! وأنت أيها الشاعر المهاجر في دنيا أحلامك وخيالك وعوزك.. هل من بيتٍ يُفتح لك دون أن تقرع بابه مستجدياً.. لتقف، شاهراً جوعك، ومشمّراً عن إفلاسك!؟

العدد 1140 - 22/01/2025