عاد… وبراءة الأحرار في عينيه

منذ فترة، قرأت خبراً أوردته صحيفة (إسرائيلية) تنقل فيه عن (نتنياهو) القول بأن الاضطرابات الأخيرة في الجولان يقف وراءها (سمير القنطار). ولا أخفيكم بأن الخبر أسعدني بقدر ما أثار إزعاجاً لرئيس وزراء العدو، إذ شعرت وكأن الزمن قد عاد إلى الوراء خمسة وثلاثين عاماً، وكأن سمير القنطار قد عاد ذاك الفتى ابن السابعة عشر الذي هجر دراسته ليدخل إلى فلسطين سائراً وراء حلمه الوحيد بالاستشهاد فوق أرضها، في ذاك الزمن حين كان الكثير من الشباب يملكون نفس هذا الحلم… ولأني عشت أحداث تلك القصة الخارقة من خلال مطالعتي للكتاب الذي نشره سمير بعد تحرره من الأسر، ليروي فيه قصة العملية الفدائية التي جرت في ربيع عام 1979 وقصة حياته التي قضاها في سجون الاحتلال، وصرت أفهم كيف تكون شخصية رجل من هذا النوع، فإني أصدق ما ذكره (نتنياهو) في هذا المجال، وأعرف ما الذي يعنيه مثل هذا الخبر للإسرائيليين الذين لم تفارقهم بعد عقدة سمير القنطار وما يمثله من مبادئ. ولم ينسوا صورة ذاك الشاب الصغير الذي وقع للتو في أيديهم إثر (عملية نهاريا) حين يساومونه على حريته قائلين له اظهر على التلفزيون وقل (إنهم طلبوا منك قتل الأبرياء والأطفال،وإنك نادم على ما فعلت وتطلب الرحمة من دولة إسرائيل. وإنهم سيسألونك عن قادتك، فتقول إنهم يعيشون مرفهين في الفنادق، وسيسألونك عن أنور السادات واتفاقيات كامب ديفيد، فتقول إنه شجاع ويريد مصلحة العرب والفلسطينيين، وتناشده أن ينقذ الشباب الصغار أمثالك الذين يرسلون إلى الموت لتحصل قياداتهم على الأموال من الدول العربية… الخ) فيكون جوابه رفض الاسترحام. ويهمني أكثر الصفعة المهداة إلى الخونة القدامى والجدد من مناضل قديم متجدد، أليس هو الذي رفض في المحكمة الإسرائيلية مرافعة محام عربي عنه ورفض الانصياع لأوامر قاض عربي لأنهما (كلبان) يخدمان إسرائيل؟ (أنا الآن فدائي عربي في محاكمة إسرائيلية والقاضي عربي في ذروة إخلاصه لخيانته، قبل أن يكون مخلصاً لوظيفة تافهة ويدعوني إلى التواطؤ معه، لن أفعل هذا أيضاً، لن أكون شريكاً لعربي في أن يكون كلباً في دولة إسرائيل) وفي رده على الحكم الصادر ضده بخمسة مؤبدات أي ما مجموعها 470 سنة ونصف سنة يسخر من ذاك الحكم قائلاً للقاضي: (إذا كنت تتوقع أن دولة إسرائيل ستستمر على قيد الحياة لخمسة مؤبدات فأنت مخطئ وواهم) ثم عاد إلى السجن ليقضي فيه ثلاثة عقود، ولكن ليس كأسير وإنما كمناضل خاض سلسلة إضرابات مطلبية من داخل زنزانته، وحصل مع رفاقه حقوقاً للأسرى، وأكمل دراسته الجامعية داخل السجن. وبهذه المناسبة تذكرت مقولة لا أدري من صاحبها و خلاصتها هي (من لم يكن ثورياً قبل الأربعين فهو بلا قلب، ومن بقي ثورياً بعد الأربعين فهو بلا عقل) ففكرت في مسألة المبادئ وخيانتها الذي يجري تصويره على أنه تطور في تفكير الإنسان وانتقال من مرحلة العاطفة الساذجة إلى مرحلة الوعي العقلاني، وهذا ما حصل خلال العقود الأخيرة بهدف إلغاء جيل الحماس الثوري، وتفريخ جيل الإحباط الثوري، حتى صار من الصعب العثور على رمز ثوري يتماهى معه جيل الشباب، ويعلق صوره فوق كتبه، ولكن صار من السهل أن تتعثر بمئات الرموز التافهة التي فرضت على عقولهم بقوة الدعاية المسمومة. إنما رموز البطولة لا يمكن أن تندثر، وهذا ما شعرت به حين قابلت الأسير المحرر سمير القنطار قبل ثلاث سنوات تقريباً أثناء توقيع كتابه في معرض الكتاب، فقد بدا لي وقتها شخصاً ملهماً، بشخصيته الرائعة، وما فيها من أسلوب بسيط، وقوة كامنة في الأعماق، وإنسانية مشعة، أي من أولئك الأشخاص الذين يحتاجهم الوطن في الأيام الحالكة، وها هو قد عاد الآن ليسخر ممن يعتبر الإخلاص للمبادئ الثورية مجرد شعور بدائي وطفولي، وعاد ليدخل أرض الجولان المحتل كما دخل فلسطين يوم ذهب لتنفيذ عمليته وليقول (شتان بين من يدخل الأراضي المحتلة مشتاقاً لتحريرها، وبين من يدخلها ليعالج في مشافي العدو بعد أن خرب بلده!) وهو قد عاد، لكي يعيد للثورات شبابها، ولكي يعيد إلينا شباب القلب وخضرة الروح البريئة.

العدد 1140 - 22/01/2025