تغريبات ما بعد التغريبة

خلال هذه الحقبة الزمنية العابرة ما بين نكبة 1948 وحتى اليوم، عشنا على أصداء التغريبة الفلسطينية، والتي أسسنا من خلالها لنكبة تجاوزت السبعة والستين عاماً، وستزيد ما شاء لها القدر ذلك من خلال تثبيتنا لدعامات الخيمة من بدايات نكبة فلسطين والعرب آنذاك، إلى قدر آت مجهول، سيظل طي الغياب، ما دامت تفاصيل القضية الفلسطينية ذاهبة للغياب البعيد.. البعيد! تفاصيل جعلناها مغنانا الشعبي المتوارث، وخطابنا الجماهيري الحماسي المبثوث في أجيال الوطن جيلاً بعد جيل، ومهباج قهوتنا في خيام الليل والريح، والمنافي الحزينة، نستشعر في دقاته المتوارثة ما تعني كلمة وطن، وما تعني فلسطين لأجيال الحياة؟! فلسطين من نهرها لبحرها لبرتقالها لليمونها وزيتونها وصفصافها، وزيزفونها وزعترها، لجبالها، وهضابها، ووديانها، والأهازيج المبثوثة ؟؟؟، وأغان، وقصائد خلال أعوام النكبة التالية، وحتى تاريخنا الراهن!

يجعلنا دائماً متحفزين بأنشودة (عائدون) والتي رافقتنا.. منذ طفولة نكبتنا الأولى، وما تزال تعشش في وجداناتنا: كباراً وصغاراً حتى استبطأنا تردادها الموجع إلى أن كاد يغيب؟!

سبعة وستون عاماً، ونحن نردد تغريبة فلسطين هنا وهناك وعلى امتداد العالم الشاسع الرحيب، والمفتوح على جهات المكان، والزمان بلا حدود، ولا حصار، ولا أسلاك شائكة وألغام! واليوم: إذ تناسلت من التغريبات تغريبات عربية وإقليمية لا حدود لها، ولا نهايات، تغريبات أرجعتنا إلى مواقع الصفر فيما يتعلق بقضايانا، وهمومنا، وآلامنا، وآمالنا، تغريبات أحدها قوارب الموت التي تغتالنا في بحار المنافي والعواصم الجديدة التي تستقبلنا كآخر لاجئي العصر، وأخطرها تلك الهجرة الآثمة للشمال القاصي البعيد، وأبشعها ما يجري فوق تراب هذا الوطن من فعل لم يشهد على ضراوته أي تاريخ مر في حقب الدهر.

تغريبات لاهثة متعاقبة.. تجعل الفكر العربي عاجزاً أن يتقبلها، أو يستوعبها، أو يستسيغ مجرياتها المستحيلة، تغريبات أعمق من سواد الليل، وأحدّ من ظلمة خيام نكبة فلسطين، حيث هنا تغيب (عائدون)، والزخم الغنائي العائد، وصورة فلسطين على مرمى قبلة، ومسافة وردة، تغريبة اليوم عن مشهد المنفى الجديد، المنفى النفسي والوجداني والجماعي لذاكرة الشاهدات المنكوبة، وهي تمد أيديها إلينا لتمنعنا من أكبر كارثة تشرد في التاريخ، وتشير لنا بإصبعها من هنا طريق العودة، وفلسطين هي تغريبة التغريبات كلها! أيها الهاربون للكارثة.

العدد 1140 - 22/01/2025