نريد… لا نريد

هناك فرق بين أن يريد طفل شيئاً فيبكي للحصول عليه، وبين أن يريد ناضج كبير شيئاً فيعمل ليناله، والأمر صحيح أيضاً حين لا يريد طفل، أو لا يريد كبير، وبين أن نريد وأن لا نريد هوّة واسعة وعميقة، هوّة لا بدّ من جسرها ليمكننا العبور، وإلا سنبقى حيث نحن، أحياناً نهتف بأننا نريد، وطوراً نصرخ بأننا لا نريد، صغار يبكون، وناضجون يفكّرون ويعملون، صغار يرغبون وكبار يحتاجون.

ما أكثر من لا يستطيعون التمييز بين الحاجة والرغبة، فيجمعون المفهومين بكلمة واحدة هي أقرب إلى الضرورة، وهم أولئك الصغار الذين يبكون أو يضحكون، لنقص أو لإشباع، وهم غالباً يتحدّثون باسم غيرهم أيضاً، وكأنهم الصوت الجمعي الصارخ بوجه من يمتلك المقدرة على حلّ مشاكلهم كلها، وكم كثرت في السنوات الأخيرة الشعارات التي ملأت بعض الشوارع العربية هاتفة: الشعب يريد…

هي رغبة في التعبير عن رفض وضع قائم، رغبة نبعت بفعل تحريض مؤقت، فخرجت الحناجر صارخة وهاتفة دون وعي منها بأبعاد هذا السلوك، وما ينتج عنه، حتى الرغبات تحتاج إلى حكمة ووعي حين يريد أصحابها التعبير عنها، أما أن تنطلق بهذا الشكل الغريزي القطيعي فهي ستأخذ مناحي أخرى مختلفة، وقد تكون مدمّرة. الأطفال دائماً يرغبون بتناول الحلوى، بينما الآباء منشغلون بالتفكير كيف يقدّمون لأطفالهم الأطعمة الصحية والمفيدة، ويسعون جاهدين إلى ذلك.

تناول الحلوى رغبة لدى الصغار، بينما تقديم الحلوى بشكل مدروس وصحي هو حاجة لا يدركها الأطفال، ولا يتجاهلها الآباء. واللعب رغبة لدى الأطفال، بينما الحركة وتنمية العضلات حاجة لنمو الجسم. ولا شك أن الفرق كبير بين اللعب الصبياني وبين ممارسة الرياضة. اللهو نوع من إضاعة الوقت، بينما الاستراحة وممارسة الهوايات المفيدة حاجة لا بدّ منها لإراحة الجسم، أو إعادة النشاط.

المشكلة قائمة وستبقى ما دمنا لا نعرف كيف نبرمج حياتنا، فنعمل المفيد ونبتعد عن الضارّ، وقبل كل ذلك علينا أن نميّز بين ما هو ضروري وما هو زائد عن الحاجة، فالضروري عنصر أساسي للتوازن، والزائد عنصر لا يفيد، وكل ما لا يفيد هو ضارّ بالضرورة، هناك بديهية قد تبدو غائبة، لكنها تظهر بوضوح ويسر لدى من يتأمل قليلاً، أو يفكّر قليلاً، الأوطان كالأجساد تماماً، قد يؤذيها إشباع الرغبات، لكن تقديم الحاجات يقويها ويكمل مكامن النقص فيها، وما هو مؤسف أن الرغبات لا يقدّمها سوى أشخاص يشبعون رغباتهم هم، والحاجات لا يقدّمها سوى الحريصين على بناء أوطان قوية وعزيزة، والغيورين على تلك القوة والعزة.

إقامة علاقات الحب العابرة رغبة، بينما اتفاق حبيبين على الزواج هو حاجة لبناء أسرة، وهنا تندمج الرغبة والحاجة في نسيج واحد، صحي وضروري، وكثير من الرغبات هي حاجات في مضمونها، لكنها حين تُرضى بشكل عشوائي تفقد إيجابية الحاجة، وتحتفظ بسلبية الرغبة.

هو التوازن الذي لا بدّ منه، توازن الفرد الذي ينعكس توازناً على المجتمع بكامله. توازن يعبّر عن ذهنية ناضجة في التفكير، وكبيرة في العقل والوعي. توازن يشكّل في مجموع مفرداته حالة عامة متوازنة ومستقرة. حالة لا بدّ منها إن كنا نريد الارتقاء فعلاً بأنفسنا وبأوطاننا.

العدد 1140 - 22/01/2025