أبو ميّالة ورصاصة الرحمة
لأنَّها بعيدة عنه..
لأنَّ (المراسلة نصف المشاهدة)،كما كان يقول أهلنا في جبل العرب، أيام زمان..
وقياساً عليه تكون (المهاتفة ثلاثة أرباع المشاهدة)، حسب اجتهاده..
لأنَّها امرأة غيور مثل معظم بنات حواء..
كل ما سبق زائد لأنَّها تحبه، فدائماً ما تهاتفه.
**
في مكالمتها الأخيرة، عاتبته بمزيد من مزيج الغيرة والغنج متسائلة:
كلَّما اتصلتُ بك وسألتكَ أين أنتَ، تجيبني في البريّة..
كلَّما قرأتُ لك زاوية في جريدة،طلَّت البريّة برأسها من بين السطور..
كلَّما كلَّمتني، فاحت البريّة من أكمام حروفكَ..
ما قصتك مع هذه البريّة، التي أراها ستسرقك مني، يوما ما؟
***
لأنَّه لا يستسيغ تكرار الكلام ولا الإثقال على مسامعها، بما تعرفه من تشابه الحبيبة لديه، مع الطبيعة(أو مع البريّة كما يحب أن يدعوها)، في غير سمة وسحر وخصوبة؛ وتماهي الاثنتين في الوطن، بما هو شرش وبيت وحضن. فسرعان ما أجابها:
قصتي مع البريَّة، كقصة أبي مَيَّالة مع الحكومة. أبو ميَّالة ولأسباب كثيرة معلومة، ولأخرى قليلة لا يعلمها إلاّ الله وهو والحكومة. معروف بميله إلى حكومة بلاده، وميلانه صوبها، مَيلانَ البوصلة إلى الشمال المغناطيسي. أمّا عن تبريراته تصرفات الحكومة، بلغت ما بلغت تلك التصرفات.. وتسببت ما تسببت.. وأودت بما أودت، فحدِّثي ولا حرج!
و(الميالة) لمعلوماتك، مصطلح شعبي قديم، شاع استعماله، في زمن انتشار حرفة (الإسكافية أو التسكيف) في ربوع أريافنا، وفي المدن فيما بعد. وهي – أي الميّالة – قطعة من الكاوتشوك أو البلاستيك، يضعها الإسكافي في الجانب المتآكل من حذاء ابن الريف، بغية سدِّ فراغ التآكل في حذائه، وإعادتهما (الحذاء وصاحبه) إلى سابق توازنهما وبرستيجهما الطبيعي!
(ثم يستأنف العاشق سرد القصة لعشيقته، بعد توضيحه لها معنى الميّالة).
من تبريرات أبي ميّالة الأخيرة، رداً على سؤال، بخصوص رفع سعر الخبز، من قبل أحد المتَّهَمين بمعاداتهم المتوارثة للحكومة، أجاب:
بما أن الخبز هو المادة الأولى والأكثر استهلاكاً، بالنسبة للفقراء،وأن صحة المواطن ومصلحته، هما ديدن الحكومة وشغلها الشاغل، وكي يخفف الفقير من أكل الخبز، ويملأ معدته بما هو أطيب وأكثر فائدة. فقد لجأت (الموقَّرة) إلى رفع سعر الخبز، وهي متأكدة أنها لو أبقته على سعره، لملأ الفقراء المساكين بطونهم خبزاً حافاً!
***
مرّ يوماً، شابٌّ من جماعة المشتبه بهم،كُرهَهُم الأعمى- هكذا.. وبلا سبب – للحكومة، بمنزل أبي ميّالة فوجده منهمكاً تجبل رجلاه الروث، و(عرقه مرقه)، يزرب من قمة رأسه، ليشكّل مع غبار التبن وأخاديد السنين، لوحة على وجهه، ينعكس فيها إحساسه بالمأساة، والقصور في التعبير عنه. وما إن تأكد أبو ميالة من رَوَبان الجبلة، حتى راح يسكبها، في فوارغ كرتونية متنوعةالأحجام والأشكال والألوان. منها ما كان يدعى في حياته السابقة، بالعلكة المنعنعة..
ومنها ما كان يدعى، بالمحارم المعطرة..
ومنها ما كان يدعى، بالبسكويت المشكلط..
ومنها.. ومنها..
وردَّاً على سؤال المشتبه بكرهه للحكومة،عن سبب بروز ظاهرة الرجوع إلى عهد (العصملي)، في تحضير (فاكهة الشتاء) القادم. وأسباب الحكومة في أزمة المازوت، مال أبو ميّالة برأسه جهة سائله، وبولائه جهة الحكومة،موضّحاً:
من الأسباب الكثيرةلعودتنا إلى وقود الجلَّة (والعود أحمد)، أن مادة المازوت غير متوافرة حالياً، وإن توافرت، فليس بإمكاننا أن نشتري، ولا حتى برميلاً واحداً ثمنه المبلغ المفقود.
أمّا بالنسبة لتصرف الحكومة، الذي تفضلتَ وتطرقتَ إليه في السؤال، فسجل عندك،إضافة إلى ما أعلنه وزير النفط من أسباب وجيهة طبعاً: إن الحكومة ومن باب الحفاظ على التراث، أرادت أن تذكِّر الناس، خاصة الشباب منهم (شرواك بالخير)، وبشكل غير مباشر، بواحدة من أشهر صناعاتنا المحلية اليدوية العريقة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، أن توفر على المحتاجين أمثالنا،ثمن المازوت، الثمن الذي تعلم هي قبل غيرها، عدم وجوده أصلاً في جيوبهم.
منذ أيام وَجّه أحد المصطادين في الماء العكر، حسب وصف بعض الميّالين (على أساس أنه ما زال في بلدنا مياه صافية) سؤالاً إلى أبي ميَّالة، الذي خدم الوطن ثلاثين حولاً، وأحيل على التقاعد، ترافقه أمراض سارية مزمنة، وتقاعد شهري أثري، لايزيد مع الزيادات، حتى تاريخه، عن عشرين ألفاً من الليرات السورية.
سأله ذلك الصيّاد،عمّا دفع الحكومة إلى رفع أسعار الأدوية المحلية، أكثر من نسبة 55%.
فأجابه أبو ميالة: شفقة علينا، نحن مَنْ بنا خصاصة مِنْ المرضى. لأن الأغنياء كما لا يخفاك، لا يعنيهم، معلولين كانوا أم أصحاء، ثمن الدواء، لا إن ارتفع سعره، ولا إن طار..أقصد شفقة من الحكومة علينا، وحنوّاً منها على أُسرِنا، التي نحيّد رواتبنا على حساب حاجتها، (يواصل أبو ميّالة) ثمناً للدواء، الذي غالباً إن لم يضرّ فلا ينفع، اضطرت إلى رفع سعر الأدوية المحلية، كرصاصة رحمة،تصيب بها هدفين في وقت واحد:
تريح المريض من أوجاعه، أوّلاً.
وتوفِّر راتبه لأسرته المعدمة، ثانياً.
– هذي هي قصة أبي ميالة يا عزيزتي.
– (إيه (تئبشني) ميّالة (… تك) إنت)!
هكذا اختتمت العاشقة المدينية مكالمتها التفقدية، لعاشقها البرّي، بتبليغه استمرار استعار تعلّقها به، وتأثّرها بقصة أبي ميَّالة.