المواطن يحترق بلا ذاكرة

إنَّ من يتابع الأزمات في المنطقة العربية وجوارها منذ عام 2011 ومن يستمر في قراءة يومياتها ونتائج دروسها، يلاحظ أن عشرات ملايين المواطنين العرب من فقراء وكادحين وملوثين بآفة ما أطلق عليه (تحت خط الفقر بمئة درجة)، قد فقدوا أكثر من نصف مساحة ذاكراتهم وأتلفت الأزمة ونتائجها الوخيمة ربع ما خزنته طيلة عمر الإنسان.. هذا بشكل عام.أما المواطن السوري الذي لم ينفد صبره رغم مرور سنوات أربع وأربعة شهور على الحرب على سورية، فهو يستحق المكافأة لكونه وقف مناصراً وداعماً وسنداً للجيش العربي السوري البطل الذي يقاتل في عشرات الجبهات ويحقق هزيمة لطواغيت الإرهاب وجبهات الإسناد لهم، من الإمبريالية الدولية ومن رجعيين عرب وخليجيين نفطيين وسواهم.

وكلما ازداد صبر المواطن والعض على الشفاه والإصغاء إلى صرير الأسنان، ازداد تحمّله أعباء إضافية أرهقت كاهله وألزمت الكثيرين ببيع الأدوات الكهربائية من منازلهم وبعض المساحات من الأراضي لترحيل الأبناء وتأمين هجرتهم إلى بلاد الله الواسعة لأسباب أصبحت معروفة للجميع، ولتغطية مصاريف المعيشة التي تضاعفت عشر مرات.. وهذا الواقع يزداد سوءاً مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي.. وأجمل ما قرأت منذ أيام عن استفتاء مجلس الشعب ونتائجه التي يُعترف بها لأول مرة في سورية (وهذا يرفع الرأس) فقد أكَّد المواطنون أن الحكومة هي المسؤول الأول والأخير عن الحياة من دون نور وكهرباء، وعن الوعود المؤجلة والطويلة المدى من قبل وزيري النفط والكهرباء وتصريحاتهم الدائمة والمملة.. والقول إن المسلحين هم السبب الأول لهذا التردي.. لكن نتائج الاستفتاء أكدت أن المسلحين يأتون في لدرجة الرابعة والأخيرة.

وتتجمّع أحاديث الناس على مصاطب البيوت في المساءات المظلمة، خاصة في الأحياء الشعبية ويتم مناقشة جدول العمل اليومي على مدى أربع أو خمس ساعات لبحث النقاط التالية:

1 -أعداد الشباب والعائلات التي تهاجر يومياً ومع الكثير من التفاصيل المكررة… هناك سياسة عالمية لتفريغ سورية من العناصر الشابة.

2 – بيع البيوت أو الأراضي الزراعية لدفع تكاليف (رحلة المخاطر) في هجرة غير شرعية تقدر بـ 8000 يورو للشخص. وحضور سماسرة الأزمات والهجرات في سورية ولبنان وتركيا.

3 – تداول أخبار من وصل إلى ألمانيا والسويد وجزر هاواي وفنلندة والدانمرك والولايات (المفككة) الأمريكية.. وغيرها من دول آسيوية وأوربية والتسهيلات التي تقدمها تلك الدول.

4 – المواد الغذائية التي تعفَّنت في البرادات.. وكثيرون يتحسّرون على نصف بطيخة أتلف يقدّر ثمن هذا النصف بـ 400 ليرة..!

5 -التحسّرات والبكائيات على الأجور التي لا تكفي أسبوعاً..وعلى من لم يذق اللحوم منذ شهور.. وعلى غلاء الألبسة والمواصلات والضرائب على الفواتير… وعلى المشاجرات بين الجيران لتأمين الأمكنة لوقوف السيارات.. ولم يبالغوا في أقوالهم عن سعر عرنوس الذرة 100 ليرة فقط لا غير..! والسؤال: ماذا عليك أن تأكل أيها المواطن الصابر الذي لم ينفد صبره، رغم الكوارث التي مزّقت الجيوب وألهبت المعد الجائعة.. وأحرقت ما تبقّى من خلايا حية في الذاكرة المعطوبة؟

جدول العمل المتوافق مع انقطاع التيار الكهربائي يُلزم الناس بالحديث عن انقطاع المياه، والفرح الذي يغطي البحر الأبيض المتوسط ألهب قلوب المواطنين بالسعادة، أن (سادكوب) أعلنت أن التسجيل على المازوت سيبدأ في أول آب وسيحصل المواطن على 200 ليتر مازوت، دفعة أولى، و…… بع.. دي.. ن.. سيحصل على 200 ليتر دفعة ثانية.. والمواطن يسخر من هذه المواعيد والوعود التي تكررت في الماضي ولم تنفذ..؟! وأصبح يردد في منامه وأحلامه ويزعج الجيران بصياحه: (أصبح الصبر بلا حدود.. ويمكن عولمته..!).

العدد 1140 - 22/01/2025