رسالة من مهاجر سوري
في تلك الليلة السمراء بقيت عيون والديَّ وإخوتي ساهرة، وأنا أجلس معهم أنتظر ساعة الرحيل.. أبدو باسماً حين ينظرون إليَّ نظرات الوداع، فهذ ربما تكون الليلة الأخيرة. وقد صممت ألاَّ أعود إلى البلاد إلاَّ وأنا شيخ أحمل عكازتي وعلى رأسي قبَّعة ألمانية وفي قدميَّ حذاء إيطالي وألبس سروال جينز أمريكي.. هكذا كانت الأحلام المهاجرة معي المستقرّة في ذاكرتي، المشحونة بطاقة كبيرة، تدّعي بفخر وكبرياء الكثير من الشوق، وانتظار ساعة المغادرة دون أن ألتفت إلى الوراء، وأنا أغادر هذا الحي (اللعين) الذي كان يستقبل عشرات قذائف الهاون والصواريخ كل يوم.
أيها الأحبة.. والديَّ الأعزاء.. إخوتي وأهلي..
تحية من قلب مهاجر تركتُ نبضاته عندكم واحتفظت ببعض أسراره، خوفاً من رفع الستار عن المختبئ في ذاكرتي التي تهشَّمت وتمزَّق ما بقي منها.
كنت أكذب عليكم وأدَّعي وأنا أنتظر في تركيا (العثمانية) كما كنتم تسمّونها.. أكذب وأقول لكم بفمٍ ملآن: إنني بخير أنتظر السمسار الذي يسعى إلى تأمين زورق الرحيل في البحر، والخوف الأسود يغطي ما بقي من بياض الأمل..!
ما أصعب الرحيل وركوب البحر ومطاردة القراصنة، والانتظار على شواطئ الموت.. وهذه الصور أرسلها لكم وكلها تؤكد أن موجات هذه الهجرة التي لم يسبق أن حصل مثيل لها في التاريخ القديم والمعاصر تشوّه تاريخنا وتشتت شعبنا..!
وأبوح لكم بعد أن وصلت إلى ألمانيا (النازية)، عن الحالة المزرية التي يعيشها المهاجرون.. ستقولون ليس كلهم هكذا..! أقول لكم: إن معظم السوريين الهاربين والمغادرين والرافضين لدفع ضريبة الوطن الذي يعاني مرارة القتل والذبح وقطع الرؤوس.. أقول، إن هناك خطة أوربية مركزية بقيادة ألمانيا وبدعم من البيت الأبيض والمخابرات المركزية الأمريكية، ولا تنزعوا من رؤوسكم الشك بأن الصهيونية هي شريك رئيس وفاعل وداعم، لتفريغ وطننا من الشباب وإعادة الحياة فيه إلى مئة سنة للوراء.. فالشباب باعتبارهم يمثلون مستقبل أي شعب وأية أمة يجري ترحيلهم إلى أوربا والقارات الأخرى لحقن شعوبهم بالدماء الشابة، وإعادة أوروبا إلى صباها فاتنة، جميلة، متجددة، غاوية.. ومن أجل تخليصها من تجاعيد الشيخوخة وصناعة العكاكيز.. وزج المهاجرين في مزارعهم وأراضيهم لزرعها، وتغذية أسواقهم بالخضراوات الطازجة والفواكه وإعادة الحركة إلى قراها ومدنها.. كثيرون يفكّرون أن هذه البلاد تقدّم (المَنّ والسلوى) لنا، لكنها ستجني الأرباح الطائلة من جهودنا وعرقنا.. وسيترفّه شعبها على حساب شعبنا.. وستشغّل العقول المهاجرة في مصانعها ومخابرها ومؤسساتها.
أيها الأحبّة.. لقد ذقتُ مرارة الغربة منذ ساعة وصولي إلى برلين.. فالمسكن ليس بيتاً بل مهجعاً كان مخصصاً للخيول.. وأعيش مع مهاجرين أفغان ومن باكستان وجزر القمر، وأصحاب القلوب الباردة مثل شتاء عام 2014 .. بلا تدفئة…وأنت أيها المهاجر الذي بعت ما تحتك وما فوقك.. ربما بعت البيت وأثاثه أو المزرعة أو الدكان وكل ما تملك لتجمع المال اللازم للرحيل.. وربما استدنت هذه الملايين بالفائدة كي تحقق بعض أحلامك الوردية التي تزهر في الغربة وتعطي ثمراً بلا طعم من تربة غير تربة وطنك.. أقول لمن يفكر بالهجرة إلى أي بلد، أن يبقى في وطنه فالوطن هو الحامي والمدافع عن أبنائه بجيشه وشعبه وجميع المخلصين والصادقين، وليس الفاسدين والقتلة وسماسرة الحروب وتجار الأزمات وقراصنة هجرة الملايين من الشعوب الذين يتاجرون بالأعضاء البشرية.
تحية وسلام وحياتي بلا أمان من أصحاب الصلبان المعقوفة الذين يطاردوننا في الليل والنهار.. سأعود إليكم بعد هذه الغربة الطويلة أحمل في قلبي دفء الوطن ومحبتكم..؟!