حلم يشبه الوطن
على الرغم مما جرى ويجري في بلادنا – ممَّا لم يشهد التاريخ له مثيلاً، ويشق على اللغة وصفه – بهدف تقطيع أوصالنا وتهميشنا، وطناً وشعباً وحضارة ومقاومة. لم يغادر الوطن (متردم) وجودنا نحن السوريين، ولا بارحت محبته مضارب وجداننا بوصفنا وطنيين.
صحيح أنَّ الكائن البشري لا يعيش من دون ماء وغذاء، بيد أن غذاء الروح ضروري له أيضاً – بوصفه أرقى الكائنات- وشرط إنسانيته. فماذا يبقى من كرامة الإنسان ومعنوياته وأخلاقياته، إن لم تنتظمها أبجدية الوطن؟
لا شك في أنَّ حرية الرأي وما إليها، مطلب وصفة عضوية لحياتنا، نحن البشر، نشغل (العربة) الحادية والعشرين من قطار تطورنا، ولكن .. كم تفقد الآراء من قيمتها إذا لم نطرحها بين أهلنا وأبناء جلدتنا ومن أجلهم ؟ وكم يذهب من صلاحيتها حين لا يكون مسرحها أرض الآباء والأجداد ؟
لقد فطر الإنسان بما هو ذاكرة وفكر وأحاسيس، على الانشداد إلى منبته، والانجذاب إلى مسقط رأسه وملاعب طفولته، والحنين لمرابع أهله ومراتع صباه، بأكثر من علاقة وعاطفة وسبب. و حفظت لنا سجلات التاريخ ومدونات الأدب والفن ما تصعب الإحاطة به من تجليات تعلّق الإنسان بأرضه وأهله. وأهدتنا العربية وديوان العرب ما لا يحصى من الأمثال والحكم والأشعار، التي لم ترقَ (بزعمي) موضوعاً وموضوعية وحميمية .
وما المقدمة الطللية في الشعر الجاهلي إلا تعبيراً واضحاً ومكثفاً عن تعلق الشاعر بأرضه وتقديره لها. وهذا ما يؤكده أبو تمام :
كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتى
وحنينهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ
نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ منَ الهوى
ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّل
كثيرة هي ومتنوعة الأدبيات التي مجّدت الوطن وتغنّت بمحبته عبر الأزمان والعهود والأحوال . غير أنَّ البشر عامة والمبدعين خاصة، تتفاقم مكابداتهم وتتضاعف مسؤولياتهم عندما تحدق ببلادهم الأخطار وتجتاح المذابح أهاليهم.
لقد عرف العرب والعالم الحروب مذ كانوا وكانوا. ونقلت لنا المحفوظات : تسطيراً وتصويراً ونقشاً ورسماً ونحتاً، آثار بعض المعارك من ويلات وبطولات :
رواية الثلج الحار ل (بوندارييف) .. عشرة أيام هزت العالم ل (جون ريد) .. وداعا يا غوليساري ل (جنكيز إيتماتوف)… الحرب والسلم ل(ليون تولستوي).. العقب الحديدية ل (جون ريد)… قصة إنسان حقيقي ل(بوريس بوليفوي)..المصابيح الزرق.. ل (حنامينة) .. لوحة غرونيكا ل(بيكاسو).. قصيدة عمورية ل (أبي تمام).. إلخ.. إلخ..
وهاهو ذا المتنبي، يصف لنا سيف الدولة، كما لا شاعرٌ وَصَف ولا بطل وُصِفَ، عندما يقول:
وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ
كأنكَ في جفنِ الردى وهو نائمُ
تمرُّ بك الأبطال كلمى هزيمةً
ووجهكَ وضّاحٌ وثغركَ باسمُ
أجمع أصحاب الرأي وأهل المعرفة والمختصون، أنَّ المثقفين، بالمعنى الأشمل للثقافة، وبضمنهم المبدعون، على ائتلاف مجالاتهم وأهدافهم واختلافها، هم الضمير الحي لشعوبهم والوعي الساهر على راحتها وعافيتها، وبالتالي هم البوصلة المشيرة أبداً إلى ما فيه خير تلك الشعوب.
كما درج المستبدون على النيل من المثقفين، ودأب الظلاميون على استمالتهم أو إخماد صوتهم، وحرص الطغاة بأنواعهم وألوانهم على محاربة المثقف الحقيقي- جسداً وفكراً وفئة – بلا هوادة وبشتى السبل والأساليب: فلا غرابة بعد ذلك، إذا ماحفلت الروايات والكتب بأصناف مكافحة المثقفين ومعاقبتهم، وضاقت السجون بضروب تعذيبهم وولغت الأنياب والأيدي والأسلحة بطاهر دمهم ونقي عظامهم، منذ كان ظالم ومظلوم وكانت معرفة وثقافة، منذ سقراط وغاليلو إلى فرج فودة ونجيب محفوظ، مروراً بنجيب سرور وفرج الله الحلو وحسين مروّة ومئات، بل آلاف آلاف المثقفين من مبدعين ومفكرين ومتنورين.
ولا استغراب إذا ما قرأنا، أن غوبلز كان يتلمس مسدسه كلما سمع كلمة (مثقف).. أو أن القضاء على روح المقاومة والثقافة الوطنية واستبدال روح المساومة وثقافة العشيرة بهما، هو ماكان يشغل (هتلر) في الأمس وما يشغل أمريكا وحلفاؤها اليوم..
أقوال ذات صلة
ينبغي أن يقال ما يجب أن يقال، قبل فوات الأوان.
(غونتر غراس)
مهمة الفنان أن ينير قلب الإنسان.
( جورج صاند)
من يستعمرنا لا يستطيع أن يحررنا، لأنه محكوم باستعباده لنا.
(أدونيس)
أيها الإنسان، أينما تكون لك وطنان، وطنك الحالي حيث تعيش، ووطنك الثاني سورية مهد الإنسانية والحضارة.
(بارو)
بعد أقل من سبعين يوماً، سنكمل عامنا الثالث ونحن نسبح في بحيرة الدم مع الموت، ونبتلع أقراص الصبر، على أمل أن يأتي الغد بحلم يشبه الوطن.
(نهلة عيسى)