سكون البحار.. وهدوء العواصف
ليس كل من اغتسل بالماء والصابون غدا طاهراً، ولا كل من شرب اللبن والحليب صارت نواياه بيضاء سليمة من الأذى، وليس كل من كانت له أسنان خالية من السوس عرف كيف يمضع الطعام، ولا كل من كانت أضراسه منخورة عجز عن عضّ الآخرين ونهش لحومهم، ولا كل من امتلك لساناً عرف كيف يتكلم، ولا كل من كانت قدماه قويتين صار من العدائين، ولا كل من تخرج في المدارس والمعاهد والجامعات انقلب مثقفاً، ولا كل من جلس خلف المنابر العالية صار عالياً، ولا كل من وضع تاجاً على رأسه صار ملكاً بأفكاره، ولا كل من وصل إلى القمة كان من أهل القمم والشموخ، ولا كل من سكن الجبال كان من أبناء الجبال.
وليست كل تربة موحلة صالحة لزراعة القمح وشتلات الزيتون، ولا كل ثمرة حلوة قابلة للأكل، ولا كل مياه جارية صالحة للشرب.
وليس من وصل إلى قمم الجبال على جناح نسر كالذي وصل إليها متسلقاً ظهور الأفاعي وأرجل العقارب.
ولا كل من امتلك ثروة كبيرة عاش بسعادة وهناء، ولا كل من كانت له يد قوية كان قادراً على إقناع من حوله بأفكاره ومبادئه، لأن القوة عمرها قصير والمبادئ الخالدة والأفكار النيرة لا يمكن أن تموت.
ولا كل من حاز السلاح كان جباراً وإن بدا كذلك للبعض ولا كل من ضغط على الزناد أصاب هدفه، ولا كل من أصاب استحق جائزة.. ولا كل من نظر رأى.. ولا كل من قال فعل.. ولا يوجد في الطبيعة هدوء أعمق من هدوء العواصف والزلازل والبراكين قبل أن تهب وتثور، ولا سكون أقوى من سكون البحار قبل أن تضطرب أمواجها وتهيج مياهها، ولا صمت يعادل صمت الألغام والمصائد قبل أن تدوسها أقدام الهاربين.
وليست كل قسوة دليل قوة.. ولا كل صمت دليل موافقة.. ولا صحوة الديوك من نومها، كصحوة النمور من غفوتها.. ولا مخالب العقبان كأظفار الدجاج، ولا منقار الصقر كمنقار الصوص، ولا هدير الرعد كخرير السواقي، ولا التماع البرق كضوء الشموع.
وليس كل من كان صوته مرتفعاً كان بمسموع، ولا كل من اشترى الأجساد امتلك أرواحها ولا كل من سجن الأحرار اغتال أحلامهم.
ولا كل من وقع في الوحول تلوث قلبه وتلطخت كرامته، فقد يحيا العباقرة والفلاسفة وكبار العظماء في مجتمعات آسنة وبين أناس قلوبهم كالصخور، ونفوسهم كالقبور، ومع ذلك لا يتأثرون بالروائح العفنة المحيطة بهم، فالمعادن الثمينة لا بد أن تبرق وإن كانت بين الوحول.