الكاريكاتور العربي.. «جلسَ والخوف بعينيه»..!

كنّا ومازلنا نلاحق تواريخ نشوء الكاريكاتور العربي وتطوره.. أبحاث عديدة تؤكد تعبيرية الفن وفرعونيته.

إذن، كان لقدماء المصريين دور في تظهير التناقضات والرموز التي تخدم الغرض في إيصال المضمون مع الأحداث.

فالمجال العربي فرضَ مناخاً خصباً للتعبير، قد يجعل الطير يصعد السلم، والزرافة تتوسد الغيمة، والثعلب يرعى قطعان الغنم..!

تؤكد الدراسات الحديثة أهداف هذا الفن ومهامه الكثيرة التبشيرية والتحريضية في آن معاً.. ولكنْ، ما الذي جعل يعقوب صنّوع (أبو نظارة زرقا) يشهر مجلته في زمن ظهرت فيه فكرة التحرر الوطني..؟

لم يطّلع على أوراق البردي، ولم يرَ جدران المعابد والكهوف.. ولكنه سمع أو ربما تخيل..

إذن، تساؤلات عديدة في طريق ازدحم بالغموض حيناً، والترقب حيناً آخر.

هذا الحال، يشبه (الولادة من الخاصرة).. ونقتبس هذا العنوان الدرامي لأنَّ الأحداث المتلاحقة التي هيّجت الحالة الساخرة وطنياً مثل سورية.. جعلت بعض الصحف، ومنها (الرواي) عام 1909 و(ضاعت الطاسة) عام ،1910 تفردان للكاريكاتور زوايا عديدة وصولاً إلى زمن (المضحك المبكي) عام1929 الذي اتخذ صاحبها حبيب كحالة منذ عددها الأول رمزاً ساخراً هو الحمار، ليخاطب الحالات بأسلوب لاذع.. واستمرت المجلة أكثر من ثلاثة عقود.

الفنانون: رخا، رفقي التركي وصاروخان الأرمني.. عبّروا، أجادوا، وصّفوا وفتحوا المجال لمفاهيم جديدة بأثواب زركشها من أتى بعدئذ، كصلاح جاهين، البهجوري وبهجت عثمان.. إذ إنَّ أسماءهم دخلت ساحة الخمسينيات ليغيروا أيضاً دروس الرصد والتلقي وتصحيح المسارات الاجتماعية بمنهج نقدي يأخذ في أغلب الأحيان البعد المستقبلي.. ولم يغفلوا المغالاة في صياغة المحتوى.. ممزوجة بالسخرية الحادة،التي تشكّل العمود الفقري بكل معانيه الدلالية الحسيّة.. ولا ننسى أنّ مجلة (صباح الخير) هي التي قدمتهم مع انطلاقتها عام 1956.

مدارس شاغرة متروكة للريح..

صفوف متناثرة الآراء والأهواء.. تخضع الحصص الدراسية فيها لتيارات الحكومات ورائحة المال السياسي الذي غيّر وقلب موازين العين الثالثة…

يرددون مواويل الآخرين، والنتيجة صفر على شمال الإبداع..

حين كتبتُ مرة عن تلك المدارس وعن صفوفها وأساتذتها.. دارت طواحين الانتقاد، وظهر عشرات (الدونكيشوتات) بألبسة مختلفة في رحلة الألف خواء..

البعض مايزال يتغنى بأمجاده.. إذ كانت الساحة خالية من رواد هذا الفن.. والبعض الآخر ابتكر لنفسه مرايا تختلف عن (مرايا) الضاشوالي السوري عام.1947. واهتم بالظل على حساب الشعاع.. وفق تصور ساذج.

ذريعة الكسول دائماً هي مسح السبورة، ولأن الممحاة المبتكرة كانت هي الحَكَم.. فقد تناسى البعض أيضاً جوهر الفن القائم على مسألتَيْ التعبير والومضة (اللمعة) الساخرة.. فظلت الصور تراوح مكانها، لا بل أضيف عنصر النكتة الدارجة إلى الكاريكاتور، وبدأت التعليقات تلوك المفهوم دون عناء أو تنقيب.. فأصبح المسكوت عنه أكثر تعتيماً.والنتيجة.. بلا مردود.. بعكس ما رسمه الأوربيون الشرقيون في مدرستهم التعبيرية القوية الشديدة الإبهار والتكوين والوحدة النصية..

كتب الناقد التشكيلي السوري عبد القادر عبد اللي تحت عنوان فرشاة: (لابدّ من الاعتراف بأن الكاريكاتور في بلادنا من أضعف ضروب الفن  ودائماً كما هو معروف هنالك استثناءات  والمؤشرات على هذا الضعف كثيرة.. )..

ويضيف: (ولكن ألستم معي بأنَّ الموهبة ستبقى مكانك راوح  بحسب التعبير العسكري  إذا لم تجد الفرصة للنمو، وتقديم الذات؟ وهكذا فهي مربوطة جدلياً  وفق التعابير الرياضية – بوجود تلك الدوريات التي تحتضنها، وبالتالي فأنا غير متفائل بتطور هذا الفن في المدى القريب).

الرسامون وسرير بروكست..!

 فقط هنا، الأقلام تتصارع، والكل يواجه، نرسم الخط الأحمر ولا نحدد تضاريس الوجود، ودرجات اللون بلا بريق في زمن الامتداد الصفراوي.

أقلام وأقلام، والتسمية تختلف.. رقص على إيقاع المال والاتجاهات، وواقع لا يعرف سوى الانحناء..!

فقط هنا، الساحة مؤطرة، مسيّجة، تابوهات هناك.. وثالوث لا يمكن الاقتراب منه والتصوير..

و(مازورة) تحكم على طول الشخص وعرض أفقه.. ويمنح صاحبها (المختار) شهادة حسن سلوك فنّي، وإنْ كان راضياً عنك.. أقمتَ في ربوع أسلوبه وألوانه ونمطيته… (حكم القوي على الضعيف).. دون الاعتراف بنمو الآخر، وقد وصفها أحدهم بقوله: (كمثل شاب بدأ جسده بالنمو، ولكن أهله لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة، فيستمرون في معاملته كطفل يحتاج إلى الرعاية والوصاية، وحشره في ثياب طفولةٍ ضاقت عليه..!

ومازال حضور (سرير بروكست) الكاريكاتوري طاغياً ليؤكد تجذر الأسطورة التي ابتدعها الإغريق قبل ثلاثة آلاف عام.

عندما يحضر الغياب..!

كثرت المواقع الشخصية وغابت الشاملة.. باستثناء بسيط، وهذا يعدُّ بؤساً آخر يتناسب طرداً وعدد العاملين في حقل الكاريكاتور، ولكن تبرير ذلك خطأ جسيم..

إذن، مواقع حملت عناوين عريضة وباذخة، يديرها شخص واحد دون آلية تحكم أو تضبط ما يُنشر في فوضى (النت) المجنونة.. وأصحابها يحاولون اللعب بقواعد الكاريكاتور من باب أنهم ملكوا منبراً وهم أحرار فيما ينشرون…يقول الناقد أديب مخزوم عن هؤلاء: إنهم أسماء موسمية عابرة.. وعبَّر عن رؤيته في صحيفة (الثورة)، وتحدث عن اللقب الفارغ من المضمون الذي يكرّس ظاهرة التشبث بالمظاهر عوضاً عن التركيز على المواهب. وازداد عدد هؤلاء المغمورين ازدياداً مربكاً ومريعاً، وأصبح بإمكان أي كان أن ينشئ مؤسسة إعلامية خاصة بنتاجاته ويدّعي أنه الفاتح الجديد في عالم الفن… إلخ.

ولن نبتعد كثيراً، فقد قال تشيخوف في مصادفته الثانية ضمن إحدى قصصه: (إنني أقسّم البشرية إلى قسمين،الكتّاب والحسّاد..

أولئك يكتبون، وهؤلاء يموتون حسداً.. ).

في الاستثناءات، نستطيع الحديث عن موقع الكاريكاتور السوري الذي أنشئ عام ،2005 وكان أول نشاطاته هو المسابقة الدولية السنوية للكاريكاتور، التي مازالت مستمرة حتى الآن…مسابقة استقطبت المئات من رسامي الكاريكاتور وعشرات الدول.. فكان التجاوب معها كبيراً والصدى أكبر..

ولكن ما يلفت النظر، هو قلة المشاركة العربية في معارض العالم، باستثناء مصر وسورية.. وبعدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهذا ما أثر حقيقة في المشهد العربي كاريكاتورياً…وأثر أيضاً في قضية التلاقح الثقافي والمعرفي.. واللقاء بحسب عالم النفس السويسري (كارل يونغ) يشبه التفاعل بين مادتين كيميائيتين، إذ تتبدل كل مادة من أجل حصول التفاعل..)..

فالغياب يشكل حالة غير صحية ولا ندري أسبابها الحقيقية، أهي مغامرة مجانية كما يحسبها البعض أم طلاق وتقوقع..؟

مجلات وصحف وجمعيات خجولة..!

تسجل لبدايات القرن الماضي نقطة هامة، إذ حفلت تلك المرحلة بولادة العديد من الدوريات التي واكبت وواجهت التحديات المحدقة بالناس، وسلطت الضوء على منابع الداء والدواء معاً، وبعض مظاهر الفتك التي تعترض مجتمعاتنا.. ناهيك بالدور الكبير الذي لعبه الكاريكاتور المرافق للنصوص الساخرة، والتعامل مع التفاصيل بلغة شجاعة، منبثقة من الحالة العامة.. وأكدت الدوريات آنذاك موقفاً سياسياً دعائياً خطيراً، أقرب ما يكون إلى التحريض.

أما الآن، فقد خلت الساحة العربية من الإصدارات الكاريكاتورية المستقلة، فصدرت مجلات وصحف، ولكن الكاريكاتور كان فيها مرافقاً، فلم تتفرد مجلة أو جريدة برسوم أو مواد كاريكاتورية فنية خالصة.. ولو أخذنا مجلة (كاريكاتير) المصرية التي تصدر عن الجمعية المصرية للكاريكاتور مثالاً…وأردنا فرد صفحاتها، لوجدنا أنها مجلة تضم نخبة من الكتاب الساخرين الذي أثروا في الحراك الثقافي، يضاف إلى ذلك استقطاب أسماء كاريكاتورية ساهمت في تحقيق الوظيفة الجمالية للمجلة…ولكنها- أي المجلة- غابت عنها خصوصية المجلات الكاريكاتورية، على عكس ما قدمته مجلة النضَّارة (Quevedos) الإسبانية ومجلة (كيهان كاريكاتور الإيرانية) ومجلة (Syriacartoon) الإلكترونية التي تصدر باللغتين العربية والإنكليزية عن موقع الكاريكاتور السوري الدولي…. إلخ!

أباطرة التحرير والمانشيت العريض..!

إنّ القصة البطولية لرسام الكاريكاتور، تبدأ من المحاولات الرائعة التي ينتقد فيها أصحاب النفوذ سلاحه الصغير. فكل شخص يصبح ناقداً عندما تمارس عليه الضغوط بالقوة لقبول أحكام السلطات، علماً أن القبول الطوعي يستلزم اقتناع الناس.

وهنا، تبقى علاقة رسام الكاريكاتور بالسلطات معقدة جداً، وقد عبّر عن كرهه الشديد لحالة الاستبداد والقمع سراً وعلانية، فحالته النقدية، حالة إنسانية تخلو من الشوائب والتعقيدات، وهو يحبذ القتال ضد الشر، فلا يهاجم لمجرد الهجوم، بل على العكس هدفه أسمى وأرقى، وهو القادر على أن يفهم ويمسك بالجوهر الراسخ، غير القابل للتغيير، بالطريقة التي يراها مناسبة، وبالتالي لا يكفي أن تتوفر عناصر نجاح اللعبة، ولكن يتعين معرفة كيفية اللعب..

ولكن فيما ذكرنا، لابد أن نشير إلى رسامين تخلوا عن مفاهيم الفن الأخلاقية والإنسانية، وذلك بالغوص في مستنقع الإلغاء العفن… وتمييع المعتقدات بما يناسب حالة التلطي خلف أردية الحقد والضغينة.

ناهيك بتسفيه روح العمل الفني، فقد تحول البعض إلى إسفنجة تمتص (مانشيتات) الصفحات الأولى في الصحيفة دون عناء أو تنقيب عن فكرة خلاقة تعبر عن آمال الناس وآلامهم.. والبعض الآخر خضع لعقلية تحكم العمل، وانساق معها وباع ضميره في سوق النخاسة، على عكس ما كان عليه الفنان الصادق ناجي العلي الذي رفض أن يهادن هذا النظام أو ذاك، فقضى نحبه بكاتم صوت جبان في مدينة الضباب لندن عام1987.

وإذا كان الشهيد ناجي قد حدد مهام الكاريكاتور قائلاً: (مهمتي التحريض،تحريض هذه الجماهير ضد واقعها المزري.وهذه هي حدودي، وهذا هو دوري:كشف الواقع، والتعبئة،والباقي مهمة الثوار).. فماذا نقول عمن أضاع جهاته وفقد بوصلة التجريب والاستقلالية والتفرد في عالم مليء بالمفاجآت والدهشة..؟

وماذا نقول عن صحف تخلت عن فنانيها بسبب موقف لم يناسب أهواءهم..؟

إذن، هو واقع يجهش بالبكاء.. ويخلق حالة عدوانية(سيكوباتية) تفرض نفسها على إيقاع التلقي، وحالة فصام (شيزوفرينيا) معرفية على سكةٍ قطارها فقد بصيرته.

أرقام وحروف..!

لو دخلنا في حسابات الأرقام والحروف، لخرجنا بألف صفر.. ولأفقدنا الكاريكاتور بريقه على الرغم من انتشاره الواسع في العالم وسرعة وصوله إلى المتلقي..

وفنان الكاريكاتور العربي لم يعزز وجوده وسلطته، بل على العكس جرفه تيار الأنا.. وفقد البارومتر الذي تقاس به درجات الظلم والاضطهاد.. ومنهم من نفخ في غير ضرم.. كما يقول المثل..!

و(ديكارتيّة) الحال تقول: (أنا أفكّر، إذن، أنا موجوع)..!

والمشكلة هي في تأثير التعليب الممنهج بسبب الانحياز العاطفي والاصطفاف السياسي الذي وصل البلّ فيه إلى الذقن الثقافي، والواقع المهني، ومن يعرف حق المعرفة كيف تُعجن الأمور في مطابخ الصحافة.. فلن يفاجئه أيُّ قرار يصدر.

الحبر عليك هو المكتوب..!

إنّ قارئ الكاريكاتور يتعلم الحقيقة عن طريق مشاركته في القراءة الصحيحة لهذا الفن، ومحاولة تسليط الضوء على الظلام الذي يحكمه بالصمت، وعلى بعض المؤثر عليهم، وعلى التابعين. ويبقى الكاريكاتور من المهن النادرة في إطار عملية ثورية على حدّ تعبير جان بول سارتر: (الثقافة الحقة هي الثورة). وتبقى الوظيفة الأساسية للكاريكاتور هي فتح الأبواب المغلقة..!

فمتى نشهد ربيعاً كاريكاتورياً عربياً، ونستنبط مفاهيم جديدة تواكب وتجاري دون التلطّي خلف مقولة لم أر، لم أقل، لم أسمع، خوفاً من المجهول.. وهل سيبقى الكاريكاتور العربي يتأمل الفنجان المقلوب..؟!

العدد 1140 - 22/01/2025