يحترق بنارهم.. ويختنق بدخانهم
دون أن تأخذ من أحد.. تنمو الأعشاب المضرة والمرة في كل مكان، خصوصاً في الحقول التي تعب الفلاح في حرثها وزرعها بالقمح وأشجار اللوز والزيتون. وهل يملك التراب الطيب إلا الترحيب بكل ما ينبت فيه؟
إن التراب مرآة يعكس كل ما ينبت فيه من شجر ونبات، فهو كالمرآة التي ينظر فيها الإنسان، فلا تستطيع تلك المرآة إلا عكس ما يقع عليها من صور، وبالتالي لا ذنب لها إذا نظر فيها الخنزير أو الغزال والصقور أو الثعالب والكبار أو الصغار.
ما حيلة التربة الخصبة وما ذنبها، إذا خرج من رحمها أفاعٍ وعقارب وأشجار، أوراقها أكثر من ثمارها، وضررها أشد من نفعها؟ ألا نجد من حولنا وبيننا أمهات رائعات وغاية في الحسن والأدب قد ولدن أبناء غاية في السوء وقلة الأدب؟
ألا نرى كيف يخرج من العائلات الأصيلة أولاد لا أصل لهم ولا فصل؟ ولدوا من أنهار عذبة لكنهم للأسف لم يحملوا في دواخلهم وطبعهم رقة الماء وعذوبته، بل لا نشم منهم إلا روائح عفنة، ولا نجد في أفعالهم إلا كل شيء سيئ وقبيح!
وقد ينخدع المرء بمظهرهم، فوجوههم جميلة، وملمسهم ناعم، وثيابهم نظيفة، لكن لا يختفي تحتها إلا جثث ميتة ونفوس حامضة، وتحتجب وراء صورهم نوايا سوداء وأفكار فاسدة.. ومع كل ذلك نجد الحياة كريمة معهم كالمطر الذي يسقي البخيل ويروي الشوكة ويغسل الصخور.
لكن أبداً لن يتغير طبع البخيل، وإن ملك واحتجز أمطار السماء، ولا تتبدل أفكار اللئيم، وإن شرب كل يوم السمن والعسل.
يحكى أن أحد اللئام أراد إحراج برنادشو، المفكر والفيلسوف الشهير، فقال له: أنت يا سيد شو، تكتب طمعاً بالمال وبحثاً عنه، بينما نكتب نحن طمعاً بنيل الشرف والكرامة! فردّ برنادشو: معك حق، فكل منا يبحث عما ينقصه!
ويقال إن رجلاً في زمن المتنبي أراد النيل من مكانة الشاعر الذائع الصيت، فقال له حين رآه مقبلاً عليه: ظننتك من بعيد امرأة! فرد المتنبي عليه: وأنا ظننتك رجلاً!
لا يخلو أي عهد من هؤلاء اللئام، فهم موجودون في كل زمن ومكان، وقد وجب على العقلاء مداراتهم كما تدارى النار، فالعاقل يداري النار، يتدفأ عليها ولا يخالطها، في حين يخالطها الجاهل، فيحترق بنارها ويختنق بدخانها.