رجل على الطريق

 على ذات الطريق رأيته ولا أدري كم هي المرات التي رأيته فيها وهو يصب قهوته المرة للغادين والرائحين، أخرجت بعض النقود لأنقده مقابل تذوقي قهوته الصباحية كعادة الكثيرين ممن يبيعون القهوة السادة في الطرق العامة، ليعتاشوا ومن ورائهم عائلاتهم لا يعلم أحوالها إلا الله، في المسافة إلى جيبي ومناولته النقود تكثفت أزمان كثيرة كان فيها ذلك الرجل مدرّساً في إحدى المدارس يقف أمام طلابه كنخلة شامقة في صحراء مديدة واسعة، كان ينظر في عيون طلابه ليلتقط ذكاء بعضهم ويثني عليه في الحال مستبشراً بمستقبل زاهر كعادة المعلمين آنذاك حينما يرون نبوغ بعض طلبتهم، لا يكتمونه بل يجهرون به وعلى الملأ، ولعلهم -لحظة إذن- يرقصون فرحاً وطرباً بمن هم قادمون على حد تعبيره من المستقبل، وأي مستقبل كان العلم فيه أكبر من رسالة وأدل من إبداع، وكانت ابتساماته التي يوزعها بقدر محسوب على طلابه تشي بأن الشموس المرتقبة ستبزغ ذات يوم من أولئك الذين خصهم بالاهتمام، وواسى بعضهم الآخر بالمتابعة دون أن ينكرهم وهم الذين ظلوا فيما بعد في إثر الشمس.

لكن طموح ذلك الرجل لم يقف عند ما أنجزه لأنه كان بينهم معلم وطالب في آن معاً، فهو الذي تابع دراسته شغفاً بالعلم والمعرفة والاضطلاع بأدوار أخرى رسمها له القدر وصدقتها الأيام.

في المسافة إلى -النقود- تخثرت لحظات أخرى عندما خسر هذا الرجل بيته وأصبح لاجئاً في أمكنته المتعددة وما يحز في نفسه أن أولاده جميعهم قد هاجروا كطيور السنونو بحثاً عن أرض أخرى، ليجد ذاته وحيدة في مقابلة أقدارها، والعمر قد طوى كل سنينه ليضغها جانباً كما وُضع هو إلى جانب الطريق، يحاول أن يتذوق المارة مرارة ما يعيش وكان بإمكانه أن يبيع عرائس السكر لتكون الطعوم مختلفة، لكنه أصر على طعم مميز هو بنكهة القهوة دون قطعة سكر تغير النكهة في الأفواه.

لعل المسافة ما بين نقده المال لقاء التذوق كانت أقصر من أزمنته المفتوحة على اللاشيء وربما على آمال لم تنضج بعد، ولم تستوي على جودي الأحلام والأماني النضرة.

بكلمة واحدة اختزلها ليقول أرجع نقودك ليس مثلي من يأخذها، هذه متعتي الوحيدة في أنني أشارك الناس طعم الأيام، فأنا الرجل المكتفي لكنه المتطلب لمن يتذوق معه تلك المرارة الضارية، ويضيف، اكتفيت من الفرح وعشت ما أستطيع من الحلم، ولم يبق لي دور على خشبة العمر سوى بضع مقاطع أقطف فيها لحظات أخرى من ابتسامات الناس ودهشتهم إذ يمرون أمامي كقطع من الحلوى تذهب إلى مستقر لها فيما أنا أقف هاهنا، لأكون عابراً بينهم أو شاهداً عليهم أو شريكاً في حكاياتهم بقدر ما يحتمله الواقع المفطور على مجازات أصبح هو مجازها الكبير.

أرجعت النقود وفكرت في مساعدته بطريقة أخرى، وفي إطالة الحديث معه ولو قليلاً لكنه اعتذر بأدب جم قائلاً لي امضي لشؤونك واختبر جرعة قهوتي علّ نهارك يبدأ من جديد، وتقف على الفارق الذي أعيشه أنا حينما أقلب الطعوم والنكهات في الأفواه، من أجل فارق ما ثروتي فيه دهشة الناس التي كانت في أزمنة مضت فائضة، أما اليوم فهي دهشة محسوبة لأن الناس قد غدو كأبطال الحكايات كل منهم يريد دور البطولة على حدة، ولا أعلم حتى اللحظة، والبطولة هنا قدر محسوب بين الجميع،  من هو المحايد ومن هو المتفرج ومن هم في صمت، فقط يؤدون أدوارهم راضين، وللتاريخ عين ترى لنصبح جميعنا على قيد ذاكرة طليقة.

لم أعتد مثل هذا الحوار بكثافته وبأفكاره الأليفة والغريبة في آن معاً، لكني اعتدت شيئاً واحداً هو أن الحكايات هي من تتفرج علينا وترتبنا وفق مشيئتها، ذلك هو منطقها الجديد سواء أكان ثمة مؤلف ضمني لها أم تُركت وفق تداعي السرد واختلاط أزمنته… إننا في الرواية المفتوحة الكبرى.

العدد 1140 - 22/01/2025